×
محافظة المنطقة الشرقية

بالفيديو ... «الاتحاد النسائي» يحتفل باليوم الدولي للمرأة تحت عنوان «الربيع امرأة»

صورة الخبر

«عالم فريد، مُتشابك العناصر، يحوى الملامح الإنسانية العامة، ولهُ أيضًا سماته الخاصة جدًا، في مقاهي القاهرة يجلس الناس حول المناضد متواجهين، يتبادلون النجوى، الأحاديث، الأشواق الإنسانية، المصالح المادية، قضاء الحاجات، عقد الصفقات، وثمة من تلفهُ الوحدة، يجلس محملقًا في الفراغ، وقد يحاول قهر وحدته بحديثه إلى جار لا يعرفه». هكذا دون الكاتب الراحل، جمال الغيطاني، في كتابه «ملامح القاهرة في ألف سنة»، الصادر عن دار نهضة مصر للطباعة والنشر، جُزءا من تاريخ مقاهي القاهرة، متسائلًا: «إلى أى عمق تاريخي ينأى عمر المقهى القاهرى؟»، وهو السؤال الذي أجاب عليه بنفسه بُناء على بحث تاريخي طويل ومُعمق ـ حسبْ روايته ـ خاصة في ظل عدم وجود مرجع تاريخي يحدد هذه التفاصيل، رغم أن المقهى كان ولايزال جزءًا من الحياة القاهرية. منذ أنّ اتسعت القاهرة، لم تعد الحياة قاصرة فيها على الخلفاء الفاطميين وحاشيتهم، ولا شك أن المقهى كان موجودًا بشكل مختلف عما نعرفه الآن، فالقهوة التى استمد منها المكان اسمه لم تدخل مصر إلا في القرن السادس عشر الميلادي، وقيل إن أول من اهتدى إليها هو أبوبكر بن عبدالله، المعروف بالعيدروس، حيث كان يمُر في سياحته بشجر البن فاقتات من ثمره حين رآه متروكًا مع كثرته، فوجد فيه تجفيفًا للدماغ واجتلابًا للسهر، وتنشيطًا للعبادة، فاتخذه طعامًا وشرابًا. لم يكتف أبوبكر بذلك، بلّ أرشد أتباعه إليه، ثم وصل أبوبكر إلى مصر سنة 905 هجريًا، وهكذا أدخل الصوفية شراب القهوة إلى مصر، واختلف الناس حول هذ المشروب الجديد، هل هو حرام أم حلال، حيثُ حرم البعض القهوة لما رأوه فيها من الضرر، وخالفهم آخرون ومنهم المتصوفة. وفى سنة 1037، زار القاهرة الرحالة المغربي أبوبكر العياشي، ووصف مجالس شرب القهوة في البيوت، والأماكن المخصصة لها. في مطلع القرن العاشر الهجرى، حُسمت مشكلة تحريم القهوة أو تحليلها، وانتشرت في القاهرة الأماكن التى تقدمها، وأطلق عليها اسم «المقاهي»، ويبدو أن هذه الأماكن كانت موجودة من قبل ذلك بمئات السنين، ولكن لم يُطلق عليها اسم المقاهي، لأن القهوة نفسها لم تكُن دخلت إلى مصر. كانت هذه الأماكن مُعدة لتناول المشروبات الأخرى، كالحلبة، الكركدية، القرفة، والزنجبيل، كما لم يكُن الدخان معروفًا أيضًا حتى القرن الحادى عشر الهجرى، حيث يقول الإسحاقي، المؤرخ المعاصر، إن ظهور الدخان كان سنة 1012 هجريًا، غير أن مشكلة الدخان كانت أكثر تعقيدًا، فتمسك كثير من فقهاء المسلمين بتحريمُه، وكثيرًا ما كان يطارد مدخنوه تمامًا، كمّا يطارد مدخنو الحشيش في أيامنا. ويذكر الجبرتي في حوادث سنة 1156، أن الوالي العثماني أصدر أوامره بمنع تعاطى الدخان في الشوارع وعلى الدكاكين، وأبواب البيوت، ونزل معهُ الأغا، ونادى بذلك، كما شدد بالإنكار بمن يفعل ذلك، وكان كلما رأى شخصًا بيده آلة الدخان يعاقبه، وربمّا أطعمه الحجر الذى يوضع فيه الدخان بما فيه من نار. لم يُكمل الغيطاني وصفه لمقاهي القاهرة بشكل عام، بلّ خصص جزءًا عن المقاهي في القرن التاسع عشر ، نقلاً عن المستشرق الإنجليزي، إدوارد وليم لين، في كتابه «المصريون المحدثون»، والذى يقول فيه «إن القاهرة بها أكثر من ألف مقهى، والمقهى غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عقود، ويقوم على طول الواجهة، ما عدا المدخل مصطبة من الحجر أو الآجر، تُفرش بالحصر ويبلغ ارتفاعها قدمين أو ثلاثة وعرضها كذلك تقريبًا، وفي داخل المقهى مقاعد متشابهة على جانبين أو ثلاثة، ويرتاد المقهى أفراد الطبقة السفلى والتجار، وتزدحم بهم عصرًا ومساءً، وهم يفضلون الجلوس على المصطبة الخارجية، ويحمل كل منهم شبكه الخاص وتبغه، فيما يقدم (القهوجي) القهوة بخمس فضة للفنجان الواحد، أو عشرة فضة للبكرج الصغير الذى يسع ثلاثة فناجين أو أربعة». ويُضيف: «كما يحتفظ القهوجي بعدد من آلات التدخين من نرجيلة وشيشة وجوزة، وتُستعمل هذه الأخيرة في تدخين التمباك والحشيش الذى يُباع في بعض المقاهي، ويتردد الموسيقيون، والمحدثون على بعض المقاهي، تحديدًا في الأعياد الدينية الخاصة». وفي كتاب وصف مصر، الذى أعدتهُ الحملة الفرنسية، جزء عن المقاهي في زمن الحملة، والذى يقول: «تضم مدينة القاهرة حوالى 1200 مقهى بخلاف مقاهى مصر القديمة وبولاق، حيث تضم مصر القديمة 50 مقهى أما بولاق، فيبلغ تعداد مقاهيها المائة، وليست لهذه المباني أية علاقة بالمباني التى تحمل نفس الاسم في فرنسا، إلا من حيثُ استهلاك البن، على الرغم من أن هذا المشروب يُعد ويشرب بطريقة مختلفة». ويصف المقاهي نفسها قائلاً: «هى مبان ليس لها أثاثات على الإطلاق ولا مرايا أو ديكورات داخلية، فقط (دكك) خشبية تُشكل نوعًا من المقاعد الدائرية بطول جدران المبنى، وكذلك بعض الحصر من سعف النخيل، أو أبسطة خشنة الذوق في المقاهي الأكثر  فخامة بالإضافة إلى بنك خشبي عادي بالغ البساطة». ففى بداية تاريخ المقاهي، كانت تستخدم فيها الدكك الخشبية العريضة، ولايزال مقهى الفيشاوي القديم، وبعض مقاهي القاهرة الفاطمية تحتفظ بدكك خشبية عريضة، تتسع الواحدة منها لجلوس خمسة أو ستة أشخاص متجاورين، ولاتزال إحدى الدكك الخشبية في مقهى الفيشاوي تحمل تاريخ صناعتها في سنة 1910، أى بداية هذا القرن. وفى مقاهي القاهرة، كان هُناك عدة أدوات أهمها، الرف الذى يحمل عددًا من آلات التدخين، كمّا نقول عليها «شيشة»، والتى كانت تتكون فيما مضى من قالب نحاسي يحمل الحجر المصنوع من الفخار، ويوضع فوقه الدخان، وفوقه جمرات الفحم، وتتصل أنبوبة التدخين بقلب الآلة، ويوضع في مقدمته فم من الكهرمان، وغالبًا كان يتم شراؤها من دكاكين التحف القديمة، والتى لاتزال موجودة داخل خان الخليلي الآن، حيث تخصصت في أدوات المقاهي ولوازمها. ومن أهم المشروبات في المقاهي الآن، الشاي، وهو مشروب حديث لم يدخل مصر إلا في القرن التاسع عشر، وأثناء الجلوس بأى مقهى قاهري، تصل إلى الأسماع نداءات يطلقها الجرسون، مناديًا العامل الذى يقف وراء المنصة، يبلغه بطلبات الزبائن، ولكل مشروب اسم معين، والشاي لهُ أكثر من اسم، «البنور» أى شاي عادي في كوب زجاجي، «ميزة» مخلوط باللبن، «بوستة» غير مخلوط بالسكر. أما القهوة، فتُقسم وفقًا لتصنيفات الصبيّ «سادة، مظبوط، وزيادة»، كمّا تسمى القرفة «فانيليا»، والنرجيلة التى تحمل دخانا مخلوطا بالعسل «المعسل». كيف كانت المقاهي قبل انتشار المذياع؟ سؤال هام أيضًا، أجاب عليه جمال الغيطاني داخل صفحات الكتاب، فقبل انتشار المذياع والراديو في مصر، كانت المقاهي أماكن مخصصة لرواية قصص السير الشعبية والملاحم، وكان أصحاب المقاهي يستقدمون رواة القصص، وبعضهم يُعرف باسم «الهلالية»، لتخصصهم في سيرة أبوزيد الهلالى، والبعض الآخر باسم «الظاهرية». ويُمكننا القول إن العصر الذهبي لمقاهى القاهرة كان في النصف الأول من هذا القرن، خاصة في العشرينيات، والثلاثينيات، حيثُ كانت القاهرة الجميلة، الهادئة آنذاك، تذخر بالعديد من المقاهى، منها مقهى نوبار، والذى توجد مكانه الآن مقهى المالية، وكان مُلتقى الفنانين، فكان عبده الحامولى يقضى أمسياته فيه، ومعه بعض أصحابه. وفى ميدان الأوبرا، كان يوجد مقهى «السنترال»، وموضعه الآن جزء من ملهى صفية حلمى في ميدان الأوبرا، وهذا الملهى يضم أيضًا مقهى من طابقين إلى الآن، ويُعرف باسم كازينو الأوبرا، وكانت تُعقد به ندوات أدبية لنجيب محفوظ كل جمعة، أما مقهى «متاتيا»، فمكانه العتبة الخضراء، وكان يؤمه جمال الدين الأفغاني. وعلى مقربة من الموسكى، قهوة «القزاز»، ومكانها الآن بعض المباني القائمة عند الجانب الأيمن من الشارع بالقرب من العتبة، وعامة زبائنها من أهل الريف، الذين يجلسون فيها ويتأملون النساء القاهريات المحجبات بالبراقع البيضاء والسوداء.