جلست مع رجل (مسن) ــ بالسين لا بالصاد ــ أكل عليه الدهر وشرب، وكان طوال حياته لا يزرع إلا النخيل، وترحم على أنواع منها انقرضت أو كادت تنقرض، فاستدنيت قلما وورقة وكتبت مسمياتها، وهي: الشرسة، ريق البنات، زعاقة، أم البيض، نبتة العبيد، خصوة البغل، مجنونة، شمشولة. فقلت له: سقى الله زمان أول، إنني أحب التمر وقد لا يمر يوم دون أن أتناول عدة حبات منه مع القهوة، قال: يعني (تقدع)، أجبته: بالضبط، كما أنني مثلك أحترم النخلة مطبقا ما أوصانا به رسولنا الكريم، ولكن ــ مع الأسف ــ أنه لم يحالفني الحظ لأكل تمرة واحدة من نوعية (ريق البنات). وتوارد إلى ذهني الآن، وأنا أكتب هذه الكلمات حادثة قديمة كان للنخلة دور فيها. فيقال: إنه في السنوات الأولى من توحيد الملك عبدالعزيز للبلاد، كان مع جنوده في القصيم، فأتى لأحد البساتين، واتفق مع صاحبه على شراء كل محصوله من التمر لإطعام جنوده، وهذا ما حصل. وصادف أن أحدهم ارتقى نخلة باسقة طويلة لجذ (عذوقها)، ولحظه العاثر اختل توازنه وإذا به يسقط منها على عامل المزرعة ويقتله. وعندما علمت زوجته أتت مسرعة وهي تبكي وتولول وتطلب القصاص، وحاول الملك بشتى الوسائل أن يقنعها أن ما حصل هو قضاء وقدر وليس مقصودا، والدليل أن الذي سقط قد تكسر وجرح، وأنه مستعد أن يدفع دية زوجها، ولكن ورأسها وألف سيف لا تريد غير القصاص. فاستدعى الملك المشايخ ليستفتيهم، فأجمعوا أن ليس لها غير الدية، سواء قبلت أم لم تقبل. فأطرق الملك مليا، ثم قال لهم: إنني أقدر حالة تلك المرأة المسكينة الثكلى، ولا أريد أن أزيد مصيبتها مصيبة، ولكنني أنا الذي سوف أحل تلك المشكلة، وطلب منهم أن يستدعوها. وعندما مثلت بين يديه قال لها: إنني أتعاطف معك وسوف ألبي طلبك، وإذا كنت أنت التي طلبت القصاص، فلك كامل الحق بذلك، ففرحت وأخذت تشكره، ولكنه استطرد قائلا: وبما أن لك هذا الحق، فلي الحق كذلك بما أنني ولي الأمر أن اختار القصاص المناسب، فهل توافقين، فقالت: أوافق ولك الحق. فقال: إذن أريدهم أن يأتوني بالرجل الذي تسبب في وفاة زوجك، وسوف آمرهم أن يكتفوه تحت النخلة، ثم يساعدوك على الصعود إلى رأسها، وعليك أنت أن تقذفي بنفسك عليه لتقتليه وتقتصي منه، جزاء له وردعا لأمثاله، فهل توافقين؟! ــ ويبدو أن الملك لم يكن جادا، ولكنه فقط أراد أن يختبرها، وما أن سمعت ذلك حتى صمتت طويلا، وهي تفكر وتقلب الأمور، ثم قالت: إنني (استخرت) وأريد (الدية)، فأمر لها بالدية مضاعفة ثلاث مرات، مع راتب شهري لها لكي تعيل أطفالها إلى أن يكبروا. ويقال إن أبناءها عندما شبوا التحقوا كلهم في جيش عبدالعزيز. ويا ليت تلك النخلة حافظوا عليها، ومن نواها غرسوا نخيلا كثيرا.