يوسف أبولوزكانت فترة قراءات جيل السبعينات والثمانينات فترة حظ، فهي مرتبطة صحفياً بكتّاب كبار: محمد حسنين هيكل، ناصرالدين النشاشيبي، سعيد فريحة (الستينات أيضاً..)، نزار قباني، محمود درويش، وغذّى الصحافة روائي كبير مع أن رواياته قصيرة (الطيب صالح)، وكان أيضاً خبز الصحافة يطهى على صاج الكثير من الكتّاب.. بعضهم كان في صميم المهنة (أنسي الحاج مثلاً)، والبعض الآخر وضع مسافة بينه وبين صاحبة الجلالة أو مهنة المتاعب مكتفياً بهامشها الوظيفي، وظلت الصحافة أجمل ما توصل إليه الإنسان من مهن أو حرف أو عمل هي الأقرب لروح الكاتب، وقد سئل الشاعر العراقي حميد سعيد ذات يوم في ما إذا أثرت الصحافة سلبياً في كينونته كشاعر، وهو كان صحفياً أيضاً، فقال إنه كتب أجمل قصائده وهو جالس في مكتبه الصحفي، ومثله اشتغل في الصحافة سامي مهدي، وهو أيضاً من أعذب الشعراء العرب، ومثله اشتغل في الصحافة سامي مهدي وهو أيضاً من أعذب الشعراء العرب، غير أن الصحافة أو تاريخ الصحافة حمل الكثير من الحكايات الطريفة الجديرة بأن تروى، وفي العام 1981 حملت في حقيبتي كتاب « صلاة بلا مؤذن» للكاتب الصحفي ناصرالدين النشاشيبي مسافراً إلى إحدى الدول العربية، وعند نقطة الحدود البرية لفت عنوان الكتاب رجل الأمن المكلف بتفتيش الحقائب، فصادر الكتاب، وبعد شهرين أعيد لي الكتاب من دائرة الجمارك أو الرقابة، بعدما تبين من خلال قراءتهم للكتاب أن المقصود بصلاة بلا مؤذن هو صلاة الرئيس المصري محمد أنور السادات، مجازياً أو واقعياً في القدس عندما زارها.. وهو للحق رقيب كتب عربي مهذب، فقد كانت إعادة الكتاب مشفوعة برسالة ودية اعتذارية عن التأخير والمصادرة، وأظنه اليوم وبعد حوالي ثلاثين عاماً رقيباً قارئاً.. وما أجمل رقيب الكتب القارئ الذي يخاف، أحياناً، من عنوان الكتاب، ولكن بعد قراءته، يصادقه ويحتفظ به.يروى عن سعيد فريحة الذي دل قلوبنا ونحن شباب إلى مجلة (الشبكة)، وهو صاحب (الجعبة) الصحفية التي لا تنسى أنه يدخن بشراهة، ولكنه، كما يقال، يأخذ (نفسين) من السيجارة ثم يدعك رأسها في المنفضة فتبقى كما هي بلا تدخين، وفي أحد الكتب حول هذا الرجل الاستثنائي الذي صنع صحافة لبنانية أصبحت مدرسة مهنية مقابل مهنية الصحافة المصرية العريقة، رأيت خط يده المتأني والكبير، وأتخيل الآن أن ذلك الاستاذ كان يكتب فقط خمسين كلمة في صفحة واحدة بقلم باركر وحبر أزرق.. أما لماذا أزرق، فربما لأنه استعارة شعرية من بحر بيروت، وليس البحر الأبيض المتوسط، فقد كان لبنان في زمن سعيد فريحة زمن البحر، وليس زمن اليابسة السياسية المتصحرة بأطياف المذهب والطائفة، والانتهاز السياسي الذي لو كان سعيد فريحة شهده اليوم لكان له «جعبة» أخرى يضع فيها صيده الصحفي.. وهو يدخن ويلتهم الحياة بخط حبري كبير بطيء.هل كانت الستينات والسبعينات والثمانينات مرحلة حظ كما جاء في رأس هذه المقالة.. ام أنها كانت مرحلة رجال كبار كانوا هم منْ يصنعون الحظ من صحفيين وكتّاب.. وكانوا أيضاً يصنعون الحظ بالقلم والورق وما تيسر من القليل من النوم.الحظ لا يصنعك، بل، أنت اصنع حظك، كما جاء في خريطة الطريق إلى التفاؤل.. كتاب «تأملات في السعادة والإيجابية». y.abulouz@gmail.com