افتتح «مركز بيروت للفن» النسخة السابعة من مهرجان «نقاط لقاء» للفن المعاصر الذي يقام مرة كل سنتين، منذ انطلاقته الأولى عام ٢٠٠٠. والمحطة البيروتية من هذا الحدث الفني المتعدد الاختصاصات، هي واحدة من محطات عالمية عدة تشمل زغرب وأنتورب وهونغ كونغ والقاهرة وفيينا وموسكو. وتحمل هذه النسخة عنوان «عشرة آلاف خدعة ومئة ألف حيلة» المستوحى بطريقة غير مباشرة من تعبير للفيلسوف فرانز فانون، صاحب منهج التحليل النفسي في حرب التحرير الجزائرية، في كتابه «المعذبون في الأرض» (١٩٦١) الذي يعتبر أحد النصوص الكلاسيكية في جسم الدراسات ما بعد الاستعمارية. ويشي طرح مجموعة «ماذا، كيف ولمن» التي تتولى التنسيق الفني للمهرجان بتنظيم من صندوق شباب المسرح العربي، في هذا العنوان بالمنطلقات والرؤى لدى المقيمين إزاء الواقع العالمي الراهن ومكانة الفن ودوره في التعامل مع حالات القمع المتواترة والحراكات المضادة لها في مختلف أشكالها وإنما تحديداً من حيث انطلقت شرارات حوار الاستعادة النقدية لمفهوم الثورة في عام الحراكات الشعبية العربية ٢٠١١. يشير عنوان «نقاط لقاء» إلى طرح خاص لدى فانون في تحليل الانزلاق من الكولونيالية إلى النيوكولونيالية على اعتبارها النتيجة التاريخية للصيرورة غير الثورية للقوى المناهضة للاستعمار وتحولها عن المبدأ التغييري إلى ستاتيكية الحفاظ على النظام من حيث فهمه كنقيض للفوضى وإدارة مرحلة ما بعد الاستعمار بالأدوات عينها التي كانت فاعلة خلاله. غير أن «عشرة آلاف خدعة ومئة ألف حيلة» في تصور المقيمين ليس مجرد نقل حرفي لفانون وإنما استغلال لأفكاره في تحليل راهن لدور الطبقات الوسطى في الحراكات العربية والعالمية ومن ضمنها فئة الفنانين والمفكرين والمنسقين الفنيين والمقيمين الممتدة على نطاق عابر للجغرافيا السياسية التقليدية. ليس العنوان وحده ما يجعل الأعمال الفنية المعروضة بتقاربها المنهجي عملاً سياسياً بامتياز، غير أنه يبعث دلالة قوية على المنطلقات المفاهيمية لهذا الحدث ويحث على استخلاص الروابط مع الواقع السياسي والاجتماعي الراهن في المنطقة والعالم ويضع العمل التقييمي في سياق تموضع الفن على أساس ديداكتيكي، في استعارة لتوصيف الفيلسوف الفرنسي آلان باديو. وإن كان الأخير قاسياً في هذا التوصيف الذي يجعل الفن غير قابل للحقيقة الفلسفية وإنما مقراً بوجودها خارجه، فإن المعرض قد يستحضر من وجهة علائقية بينية الحوار الندي بين باديو وصديقه اللدود الفيلسوف والمفكر الفرنسي الآخر جاك رانسيير عن الدور الجمالي السياسي للفن ويعيد الراهنية لسؤال كان الأخير قد طرحه حول مدى نجاح العامل السياسي المحرك في العمل الفني في إخراج المشاهدة من طورها السلبي. وفي هذا الحوار الضدي بين هذين الفيلسوفين تبرز تساؤلات عن ماهية الفن ودوره ومدى علاقته الثورية ضمن مزدوجين كبيرين لفصل هذا المفهوم عن رومانسيته الدرامية التي ترسخت على مدى الثورات الفرنسية وآخرها ثورة أيار (مايو) ١٩٦٨. ويحاول المقيمون والمنظمون لمعرض «نقاط لقاء» الذي انطلق بمحـــاضرة للفنان المتخصص بالصوتيات وسياسات الاستماع لورانس أبو حمدان، ثني تعبير فانون في اتجاه نقدي خبيث بالمعنى الإيجابي. وتصبح الحيلة والخدعة في هذا السياق استراتيجية فنية تتلاعب بميكانيزمات الاستبداد عينها وتتوسل أسلوب الرأسمالية العالمية في امتصاص المطالب التحررية إلى داخل منظومة اقتصاد السوق وإنما بطريقة مضادة لها. وإن كان المعرض يجمع عدداً من الفنانين العرب، فإن ذلك يحدث بالتزامن مع مشاركات عالمية تطرح الثورات العربية والترددات الحراكية الأخرى في أماكن أخرى من العالم والتي تفجرت على خلفية الأزمة الاقتصادية العالمية، فتثير تساؤلات حول دورات ارتفاع هذه التحركات وهبوطها وامتدادها وامتصاصها في حالة من التأقلم مع الواقع المتأزم اقتصادياً واجتماعياً وبالتالي سياسياً. ويظهر ذلك في عدد من الأعمال التي تقابل بين الواقع والخطاب السائد وأساليب تسليعه واستهلاكه بشكل استفزازي. فعلى سبيل المثال، ترتفع اللافتة الحمراء التي كتب عليها بالعربية وباللون الأبيض «لتعش ولتزدهر الرأسمالية» (لمنى فتامانو وفلورون تودور)، وقد وضع أسفلها عمل رونو لاغومارسينو «نحن ندعم» وهو عبارة عن مجموعة من الملصقات لشريحة واحدة طبعت عليها كلمتا «نحن ندعم». وقد قام الفنان بنسخ ستة من الشرائح التي استخدمها مع فوارق في اللون والوضوح الطباعي تشهد على كيفية حرق الضوء الصادر عن جهاز عرض الشرائح والاختلافات المتولدة من مدة العرض وتأثير العوامل على الشرائح. ويقترح هذا العمل أسئلة من شاكلة: من نحن؟ وماذا ندعم؟ كما تستحضر السؤال الرئيسي الشاغل لمساحات تفكير شاسعة حول الذات والذاتية ودور الفرد في التغيير على قاعدة إعادة التفسير النقدية من الناحية والتحرك الفعلي من ناحية أخرى. وفي أماكن أخرى من المعرض تتوزع أعمال إيمان عيسى وجمانة مناع و «كيف تـ» وهيثم الورداني ومروة أرسانيوس ومها مأمون وعز الدين مدور، إضافة إلى كل من سفين أوغوستيينن وسيلين كوندوريلي ودار وسيمون فتال وكاربو غودينا وبابلو أريس وجوليا ريسلر وسانيا إفيكوفيتش ومريم جعفري وراج كمال كاهلون وأنطوان كانميير وفيكترويا لوماسيكو وإيدواردو موليناري وتوم نيكلسون ومنى فتامانو وفلوران تودور وميليكا توميش وسيسليا فيكونيا وتشيليمير تشيلنيك وإدغار مورين وجان روش. وتحدث أبو حمدان في محاضرته الافتتاحية التي تندرج تحت مظلة مشروعه الفني البحثي بعنوان «الأرشيف السماعي» عن مفهوم التقية مستعيناً بحادثة تحول ١٨ قرية درزية إلى الإسلام على يد داعش، محللاً الرسالة التي أشهر فيها وجهاء تلك القرى إسلام رعاياهم. واقترح أبو حمدان إعادة تعريف مبدأ التقية على أساس الاستماع من حيث هو بالدرجة الأولى منطوق يهدف إلى التعامل مع مستوى تقبل الآخر لما يسمعه من ناحية ولما يعبر عنه ذلك من تداعيات على فردانية المتكلم أو انضوائه في الجماعة. بمعنى آخر فإن التقية كمنظوم في الإجهار أو الإبطان اللفظي هي وسيلة للتخفي وسط الجموع يقابلها الظهور الذي يشكل في حالته المثلى حرية، لا في التعبير كما تدعي شعارات الديموقراطية وإنما في النطق لكونه واحداً من الخطوط الأولى في التعريف عن الهوية وفي تمايزها الملتبس. يذكر أن المعرض يستمر حتى ٣ أيار (مايو) ويتخلله عروض أفلام لكل من إدغار مورين وجان روش بعنوان «تاريخ صيف» وسفين أوغوستيينن بعنوان «أطياف» وكيانوش آياري بعنوان «حديثو الولادة» وجان ديفييه بعنوان «موقدتان لاودارنيك يوسيب ترويكو» ومارتا بوبيفودا بعنوان «يوغولسلافيا، كيف حركت الأيديولوجيا جسدنا الجماعي». الفن والسياسة