"كم شابًا في المملكة يعرف الدكتور إسماعيل البشري؟ كم شابًا يعرف هذا الأكاديمي التربوي المتميز الذي تخرَّجت على يديه دفعات من جيل المستقبل في أكثر من جامعة عربية؟ أتمنى أن يكون العدد كبيرًا، لكنني أعرف أن الرقم لن يتجاوز في النهاية أولئك الذين تعاملوا مع الرجل بشكل مباشر أو غير مباشر من طلابه وزملائه في الوسط التعليمي. وأعرف بالتأكيد أن العدد المذكور لن يكون، للأسف، قريبًا من عدد أولئك الذين يعرفون أسماء أهل الفن والطرب والرياضة. بل يعرفون من تفاصيل حياتهم الدقيقة ما لا يعرفه فردٌ عن فرد إلا إذا كان من أبناء عائلته أو رفاقه الخُلَّص". كتبتُ هذا الكلام منذ ست سنوات، ونشرَتهُ هذه الصحيفة الغراء وقتها بمناسبة مغادرته عمله كمديرٍ لجامعة الشارقة، وفاءً بعهد الأخوة والصداقة، وعرفانًا بفضله وجهوده في حقل التربية والتعليم. نادرًا جدًا ما أكتب في المقالات العامة عن الأفراد، وكانت كتابتي تلك من المرات القليلة التي وجدتُ نفسي فيها مدفوعًا للكتابة عن هذا الرجل، لأن شعوري كان ولا يزال أنه كان بنفسه مثالًا نادرًا على الإنسانية في مثل هذا الزمان. من هنا، ذكرتُ يومها أن هدف الكتابة أيضًا كان "التعريف بالناجحين وبإنجازاتهم في هذا الزمن العربي الصعب (لأنه) يُحيي الإيمان بالقدرة على الفعل والتغيير. خاصة بالنسبة للغالبية العظمى من العرب الذين فقدوا ذلك الإيمان منذ زمنٍ بعيد. كما أن هذا التعريف يعيد التوازن إلى الشباب العربي الباحث عن قدوة، حين يرى هؤلاء كيف يتمكَّن البعض عبر الجهد والمثابرة من الوصول إلى مواقع كبيرة، لا يتضارب فيها النجاحُ الشخصي بمقاييسه المعروفة مع العطاء في المجال العام". ولم أعلم أن قدرَ الله، جلﱠ في عليائه، سيدفعني للكتابة مرةً أخرى عن الرجل، تعزيةً في مُصابه الأليم الذي تألمت له المملكة بأسرها، ومعها الكثيرون في الخارج ممن عرف البِشري وعايشه. أعرف تمامًا، ويعرف كل أب، أنه لا توجد كلماتٌ يمكن أن يقولها إنسانٌ لتقوم حقيقةً بواجب التعزية في مثل هذا المُقام الجلل. لهذا، لن تكون هذه سوى محاولةً أخرى لاستلهام الدروس والعبر والدلالات من حياة هذا الرجل الكبير، وهذه المرة من هذه التجربة الصعبة. سأكتفي في هذا المقام بواحدةٍ من الدلالات، وتتمثل في القبول الذي يضعهُ الله سبحانه على الأرض لمن يستفرغُ الوسع وهو يعمل لخدمة الإنسان عليها بشكلٍ خالصٍ لوجهه الكريم. لا نزكي الرجل على الله كما يُقال في هذا المقام، لكن معرفة المرء بما قدَّمه من ناحية، ومعايشته ومعرفة أفكاره وأحلامه لأهله وبلاده وأمته، كافيان لأن يؤكد واحدُنا بأنه يعرفُ عماذا يتحدث. ولئن كانت إشارات القبول المذكور كثيرةً في حياته، إلا أن هذا الاهتمام الشعبي والرسمي بكل ما يتعلق بمصابهِ الأليم كان بكل المقاييس ظاهرةً فريدةً قلما يرى المرء مثيلًا لها في هذا العصر. كتبت الصحف والمواقع الإخبارية التفاصيل عن الموضوع فلا حاجة لتكرارها هنا، وإنما حسبُنا الإشارة إلى التكريم الذي يناله إنسانٌ يُصبح مثالًا لحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام حين قال: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض". وما من شكٍ أن حب المولى سبحانه وتعالى لعبدٍ من عباده بهذه الدرجة لا يأتي من فراغٍ، ذلك أن العلماء ذكروا في تفسير المحبة الواردة في هذا الحديث حديثًا آخر يقول فيه الرسول الكريم: "إِنَّ الْعَبْد لِيَلْتَمِس مَرْضَاة اللَّه تَعَالَى فَلَا يَزَال كَذَلِكَ حَتَّى يَقُول: يَاجِبْرِيل إِنَّ عَبْدِي فُلَانًا يَلْتَمِس أَنْ يُرْضِينِي، أَلَا وَإِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ عَلَيْهِ". وإذا كان البعض يلتمس مرضاة الله وحبه بعبادة الشعائر فقط، وهذا أمرٌ مطلوب، إلا أن قلةً هم الذين يرتقون إلى الصورة الأكبر لتلك المعاني. وهذا يدفعني لاستعادة ما ذكرته عن إسماعيل البشري حين قلت: "والحقيقة أن أكثر ما لفت نظري في الرجل منذ الأيام الأولى لعملي معه حرصهُ على الإنجاز. وهي صفةٌ نادرةٌ في واقعنا المُشبع بالقادرين على صياغة العناوين والشعارات، والذي يفتقر للقادرين على تحويل الكلام إلى عمل والنيات إلى مشروعات والأحلام إلى واقع. كما كان لافتًا في الرجل حرصه المتواصل على تحقيق معادلة الجمع بين الأصالة والمعاصرة. فرغم الابتذال الذي أصاب تلك المعادلة في واقعنا العربي المعاصر، والذي دفعَ البعض إلى الزهد فيها والإعراض عنها، كان الرجل من القلائل الذين يؤمنون بضرورة تحقيقها، خاصةً في مجال التعليم العالي، وبإمكانية ذلك الأمر.. إضافةً إلى هذا، كان الرجل ممن يفهمون بدقة حجم التحدي الذي تواجههُ أي عملية تغيير، ويبرعون في التعامل مع توازناتها المعقَّدة والحساسة على جميع المستويات، وبشكلٍ لا يتقنه كثيرٌ من الإداريين الذين لا يتمكنون من رؤية الواقع الكبير، وما يحمله من تداخلٍ وتعقيدٍ وتوازنات.. ويترافق هذا مع قدرته الفريدة على قراءة التوجهات الأساسية الكبرى الكامنة وراء عمليات التنمية والتطوير، وعلى فهمها بشكل سريع، ثم العمل لتحقيق مقتضياتها في مجال التعليم العالي بشكلٍ فعال". هكذا، عرفتُ طريقة البشري في ابتغاء مرضاة الله وحبه، ومن هذا المدخل أفهم اليوم هذا القبول الذي وضعه سبحانه له في الأرض وبين الناس. لم تسمح الأيام بلقائنا الشخصي إلا مرةً واحدةً في السنوات الستة الماضية، وما من مصلحةٍ خاصة أو مشروعات من أي نوعٍ بيني وبين الرجل تدفعني لهذا الكلام. لكنها أمانةُ المعرفة بطبيعته، والأمل الدائم في أن يكون أمثاله في مكانهم المناسب في واقعنا لتتحقق له وبه أحلامٌ وأفكارٌ طموحة في مجال التعليم العالي لا تزال رحبة في آفاقها وتطلعاتها. رحم الله أبناءك رحمةً واسعة أيها الإنسان النبيل، وأنزل على قلبك وقلب العائلة الصبر والسلوان. waelmerza@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (80) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain