ليس عيباً أن يولد الإنسان وهو يحمل عاهة خلقية ابتلاه الله بها، فصبَر على ما يعانيه منها وشق طريقه في الحياة، ولكن العيب هو نظرة المجتمع له على أنّه إنسان ضعيف يحتاج الى مساعدة الآخرين من حوله طوال حياته، بل إنّ الأمر تعدى ذلك إلى أن يوصف بأوصاف استمدوها من اعاقته التي ولد بها أو عاهته التي أصيب بها، مثل أن يوصف إنسان معوق لا يستطيع أن يحرك قدميه بكلمة "المحرول"، أو إنسان به عرج "الأعرج"، ومن أصابه مرض الجدري ونجا منه وأبقى على وجهه بصمته بالنقط الغائرة في وجهه فيسمى ب"الأخرش"، أما من ولد بشفة مقطوعة فيقال عنه "الأشرم"، ومن كانت يده بها عيب خلقي أو تعرض لإصابة بليغة أثناء عمله أدت إلى خروج عظم الكف عن عظم الساعد فيطلقون عليه "الاعضب" وغيرها من الألقاب والألفاظ.. وهي ألفاظ وألقاب قاسية ولكنها كانت تطلق على هذه الفئة ليس عن طريق السخرية منهم أو الانتقاص بل هي نتاج طبيعي للعصر الذي كانوا يعيشون فيه فيما مضى من السنين التي كانت سنين جوع وخوف وكد وشقاء. «يمين يا شيخ» أوقعت الكفيف في الحفرة.. و«الخال الأعمى» كاد أن يهلك من جذع النخلة السحري وكان المجتمع جافاً عاطفياً مع الجميع وتكاد تكون هذه السمة ملازمة للكل، فأطلقوا هذه الألقاب بعفوية تامة تنم عن عدم مراعاة شعور الطرف الآخر مهما كانت قرابته أو إعاقته سواءً كان صغيراً أو كبيراً، والعجيب بأنّ هذه الألقاب ظلت ملازمة لمن أطلقت عليه بسبب إعاقته، حيث صارت وصفاً وتعريفاً له ولأحفاده من بعده، فلا تستغرب بأن يقال هذا ولد بنت الأعرج مثلاً لتمييزه بين أقرانه من أبناء القرية، أو أن يقال هذا ولد ولد الاخرش وهكذا. تعامل جيد وعلى الرغم من تعرض العديد من الناس قديماً للعاهات سواء منذ الولادة أو جراء الحوادث، إلاّ أنّ جيل الأجداد بالأمس تعامل مع هذه الفئة تعاملاً جيداً، وحاول جاهداً أن يدمجها مع المجتمع الذي تغلب عليه صبغة العمل من أجل الحاجة وهي سد رمق الجوع الذي كان سائداً، فمثلاً على سبيل المثال كان الأعمى أو ما يسمونه الكفيف يساهم مع أهل بيته بقدر استطاعته في العمل، ومن ذلك العمل فتل سريح الخوص والليف من أجل الإفادة منه في عمل الحبال، فقد كان الكفيف يجيد عملية الفتل وإنتاج الحبال التي لا تستلزم الإبصار بل العمل اليدوي الدؤوب، وأيضاً كان المقعد يساهم بالعمل في عدد من الأعمال ك"الخرازة" وبعض أعمال النجارة البسيطة وهكذا، بينما برع عدد منهم في الحفظ وحدة الذكاء، فحفظ القرآن وعلوم الحديث وصار له حلقة علم يدرس بها الصغار ويحفظهم. عاهات منذ القدم عرفت المجتمعات أصحاب العاهات منذ قدم الخليقة ومن أشهر العاهات "العمى" فإذا ما كف بصر الإنسان أو ولد كفيفاً فان الله يعوضه بقوة بقية الحواس كالسّمع واللّمس فها هو الشاعر الضرير "بشار بن برد" الذي عاش في العصر الأموي يقول: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا وقد مرّ به رجل يسأل عن بيت أحد الناس فدلّه بشار بالإشارات إلى مكان البيت وموقعه فعاد الرجل إلى بشار وطلب منه المساعدة مرة ثانية، فأخذه بشار من يده ودلّه الى البيت، وقال له: هذا هو بيت الرجل يا أعمى!!، وأنشد هذا البيت: أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم قد ضلّ من كانت العميان تهديهِ وهذا يستدل به على أنّ العمى ليس عمى البصر فقط، بل قد يكون أحياناً عمى البصيرة، وقد كان تعامل الناس مع هؤلاء المصابين بعدد من العاهات جيداً، إذ تم دمجهم بالمجتمع، حيث يحضرون المجالس والمناسبات ويتم الاهتمام بهم والعمل على مساعدتهم، كما أنّ أهل البيت يعملون على تهيئة البيئة المناسبة وحثه على التعايش مع إعاقته سواءَ كانت حركية أو سمعية، ويعلمونه كيفية التعايش معها، بل تعدى الأمر ذلك بدمجهم بالمجتمع، فبرز العديد منهم على الرغم من إعاقته ونبغ العديد منهم، خصوصاً من فقد نعمة البصر وكان حاد الذكاء، حيث بلغ من التعليم والحفظ المكانة الكبيرة بتبوئه مكانة كبيرة في التعليم والقضاء، واستطاع أن يشق طريقه في الحياة وأن يتزوج وينجب البنين والبنات. وكان العمى من أكثر الأمراض إصابة للبشر، وذلك نتيجة لانتشار مرض الجدري الذي انتشر في فترة الحرب العالمية الثانية، حيث مرت الجزيرة العربية بويلات هذا المرض وفتك هذا المرض بالعشرات من كبار وصغار القرى - وإن كان الصغار أكثر ضحاياه -، حيث أن شبح الموت كان يلوح في الطرقات وكم سد بيت على أهله بعد أن ماتوا جميعاً، ومن القصص المحزنة هو وفاة (48) طفلاً كانوا يتلقون تعليمهم في "كتّاب" القرية من أصل (60) طفلاً؛ مما يصور هول هذه المحنة التي مرت بها القرى من جراء هذا المرض الفتاك، الذي إن سلم من أصيب منه من الموت فإنه لم يسلم من مضاعفاته، ومن أشدها فقد البصر لذا كان العمى منتشراً بكثرة. يمين ياشيخ! على الرغم من كون الأعمى حريصاً أثناء مشيه في الطريق الذي اعتاد عليه وتمرس، إلاّ أنّه لا يسلم من مقالب بعض أصحاب الفكاهة الذين قد أغاظهم أو أفحمهم في أحد المجالس، وهذا ما حصل لأحد الكفيفين من كبار السن عندما لقيه في طريقه أحد من كانوا يتحينون الفرصة للنيل منه، إذ كان الأعمى يمشي في أحد شوارع الرياض القديمة، وكان في طرف الطريق حفرة عميقة محفورة لعمل خزان للبيت، وكانت الأزقة ضيقة، وهذا الأعمى يسير بالقرب من الجدار متلافياً الاصطدام بالمارة ومعه عصاه التي يضرب بها الحائط وهو يمشي، وعندما لمحه هذا الرجل مقبلاً عليه رأى أنّ الفرصة قد حانت للنيل منه، دنا الكفيف من الحفرة العميقة غير صوته، وهو يصيح يمين يا شيخ، فانحرف الشيخ يميناً فهوى في الحفرة، وتدحرج فيها، واتسخت ثيابه من الماء والطين، وصار يصيح ويئن لقد عرفتك يا فلان، ومضى صاحبنا وهو يكاد يغشى عليه من الضحك. «الأخرش» يحمل بقايا الجدري في وجهه و«الأعضب» معطوب اليد و«الأشرم» شفته مقطوعة منطّة الأعمى كان للأعمى العديد من الأدوار التي يضاهي في عملها المبصرين وهو شديد الحرص على ما يسند إليه من عمل، وقد ضرب به المثل في ذلك حيث يقال: "قضبة الأعمى شاته" فهو اذا أمسكها فلن يفلتها لأنّه أعمى ولو فلتت منه فإنّه لن يستطيع إمساكها؛ لأنه لن يستطيع أن يراها إذا هربت بسبب عدم إبصاره، وعلى سبيل المثال عندما يخرج أهل القرى إلى المزارع وأماكن البعول وموسم الحصاد فإنّ جميع أهل القرية ممن يستطيع العمل يغادرونها الى تلك القصور -كانت تسمى كذلك نسبة لبناء القصور خارج المدن- بهدف العمل على الحصاد. ويجبر الجوع المتربصين عند مغيب الشمس وانتهاء وقت الحصاد على مهاجمة القصور بهدف الحصول على جزء من غلة الحصاد؛ مما يجعل أهل تلك القصور في حالة تأهب قصوى للتصدي لهم فتراهم يتوزعون على الأبراج المحيطة بها للحراسة والحماية، وغالباً مايكون من بين السكان عدد من فاقدي البصر "مكفوفين"، فيكون دورهم أن يبقوا بين الأسوار التي تصل المباني ببعضها، وبين ثلمات السور، بحيث يحمل كل منهم عصا غليظة "عجرا"، والويل كل الويل من يحاول القفز من هذه الثلمة التي يوجد بها هذا الأعمى الذي لا يجيد سوى الضرب بقوة من دون أن يتحقق من المتطفل، وتسمى هذه المنطقة ب"منطّة الأعمى"، فمن قاده مصيره عند الهجوم إلى هذه "المنطّة" فإن مصيره سيكون مجهولاً من شدة ما يجد من ضربات الأعمى. الأعمى الطائر! ومن الطرائف التي تخص مكفوفي البصر هو ما حصل لأحدهم بإحدى قرى نجد الذي كان يفتقد أبناء أخته في الليل ليتسلى معهم، وكان كثير البحث عنهم، وسؤال أهلهم عنهم؛ مما جعلهم يقعون تحت المساءلة من أهلهم في الصباح أين قضوا الليل، فالعادة ألا يغادر أحد المنزل بعد صلاة العشاء، بينما أن هؤلاء الشباب كانوا يسهرون ويسمرون مع عدد من أقرانهم الى ما قبل الفجر ليعودوا إلى بيوتهم، ولما ضاق الحال بهم من هذا الكفيف دبروا مكيدة له تجعله لا يسأل عنهم البتة. وفي صباح أحد الأيام جاء أحد أبناء الأخت إلى خاله الكفيف، وأخبره بأن لديه سراً يريد أن يطلعه عليه بشرط ألا يفشيه لأي أحد، ولما استوثق منه قال له بأنه هو وأصحابه يذهبون في الليل إلى عمان عن طريق جذع نخله سحري يطير بهم إلى هناك فيذهبون في الليل ويعودون قبل الفجر، ووصف له حسن عمان وأنّها جنة خضراء، وكدليل على ذلك وضع في كف خاله بعض حبات الهيل الذي يعد من أفضل بهارات القهوة، وكانت هذه الحبات من الهيل رطبة وطازجة، حيث عمد إلى وضعها في ماء حار وتركها إلى أن صارت طرية، فصدق هذا الأعمى قول ابن أخته وطلب منه أن يرافقهم، فقال على الرحب والسعة وقال إن الموعد بعد صلاة العشاء. وبعد صلاة العشاء جاء وأخذ خاله الأعمى وقد كان اتفق وأصحابه على خطة تجعل خاله يفارقهم ويتركهم في حالهم ولا يسأل عنهم، وقد كانت خطتهم هو جلب جذع نخلة ووضعة في "المنحاة" المهجورة خلف منزلهم وطرفه في أسفلها وطرفه الآخر في أعلى "المنحاة" التي هي عبارة عن حفرة بالقرب من البئر تنزل فيها الدواب لتسحب الماء من البئر عن طريق "الغرب" ذهاباً وعودة حتى يركب الأعمى على طرفه ويرفعونه من طرفه الآخر ليتعلق في الهواء حتى يظن من يركبه بأنه يسير في الفضاء، وبعد أن ركب هذا الأعمى قال له ابن أخته الآن سنطير في الهواء ولكن لا تذكر اسم الله وإلاّ سوف تقع، وبعد أن رفعه أصحابه الجذع سأل الأعمى ابن أخته الذي يقف بجانبه وهو يظنه راكباً معه هل طرنا فقال نعم فذكر الله عندها رمى أصحابه بالجذع في الحفرة فسقط الأعمى في الطين والأشواك وآلمته تلك السقطة والشباب يكتمون ضحكاتهم، فنزل الابن إلى خاله وقال له: ألم أحرصك أن لا تذكر الله فها قد وقعت، فأرجعه إلى البيت وهو يئن ويتألم، وظل حبيس البيت أياماً، وبعد مدة قال له ابن أخته هل سترافقنا، فقال لا اذهبوا ولن أخبر أحداً، وبهذه الحيلة تخلصوا من سؤال الأعمى عنهم، وعادوا إلى سابق عهدهم من السهر واللهو ليلاً إلى ما قبل الفجر من دون أن ينم عليهم الأعمى. ذوو احتياجات الخاصة مع تقدم الزمن وانتقال الناس من حياة الكد والشقاء إلى حياة الرفاهية ورغد العيش وانتشار التعليم وزيادة الثقافة والوعي بين الناس زاد الاهتمام بأصحاب العاهات والمعوقين وعرف الناس أنّ لهم حقوقاً من أبسطها هي عدم جرح كرامتهم ومن أهم ذلك عدم تسميتهم بالمعوقين، وإبدال ذلك بمسمى لطيف وهو ذوي الاحتياجات الخاصة، وتم رصد مساعدات من الدولة تصرف لهم دورياً، بل تعدى الأمر إلى تمييزهم بتخفيض أسعار تذاكر سفرهم وأحقيتهم في الوقوف في أماكن خاصة بسياراتهم، وتم عمل مداخل خاصة لا تعيق حركتهم ودمجهم في التعليم مع طلاب التعليم العام وتيسير توظيفهم في الوظائف التي تناسب قدراتهم، وبهذه الخدمات الراقية خفف على كثير منهم أمر إعاقته وجعلته يقبل على الحياة بتفاؤل وحب كبقية أقرانه من الأصحاء.