أوجدت إسرائيل لنفسها مشكلة عويصة، وهي عاجزة عن حلها، مفادها أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تملي الحل على الآخرين، لكنها عاجزة عن فعل ذلك الآن، إذ إنها مشلولة نتيجة النفوذ الإسرائيلي الكبير عليها، إضافة إلى مجموعات الضغط. وكانت إشارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى حل الدولة الواحدة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، قد لقيت ترحيباً من قبل البعض، لأنه يقال إن سياسة الاستيطان الإسرائيلي جعلت من المستحيل قيام حل الدولتين، وهو الهدف الذي كانت تصبو إليه إسرائيل. لكن لدى استعراض سريع للحقائق الصعبة، يتضح أن حل الدولة الواحدة لا يقل استحالة عن حل الدولتين. ويمكن أن يكون حل الدولة الواحدة مقبولاً من قبل جميع أصحاب العقول المنطقية، لكن عند متابعة الأخبار ندرك أن إسرائيل يوجد بها الكثير من العقول غير المنطقية، وكان المدافعون الأوائل عنها وكذلك مؤسسوها، بسطاء تماماً، ومتعصبين، وكانت مواقفهم وسياساتهم تتشكل نتيجة هذا التعصب. ليس هناك من يهرب من وطنه ببساطة.. لا يمكن للمرء أن يحصل على معنى منطقي من هذه المجموعة من المواقف والتحاملات، ومع ذلك لا يمكن الحصول على حل منطقي لمشكلة كبيرة، صنعتها إسرائيل عن سابق إصرار وتصميم، في حرب 7 يونيو عام 1967. وبصورة مشابهة عندما بدأت القيادة الإسرائيلية هذه الحرب، كانت حساباتهم تفيد بأن الفلسطينيين سيشعرون بتعاسة كبيرة تحت نير الاحتلال، الأمر الذي سيجعلهم يغادرون هذه الأراضي مع الزمن. وتحدث وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، موشي دايان، وهو أحد مخططي هذه الحرب، عن جعل الفلسطينيين يعيشون حياة بائسة، كي يغادروا هذه البلاد. لكن تلك الحسابات كانت خاطئة، إذ إنه ليس هناك من يهرب من وطنه الذي ولد فيه، وإلا لأصبح العالم يعيش دوامة مستمرة من الهجرات. ببساطة، فإن المؤسسة الحاكمة في إسرائيل لن تقبل بسكان فلسطينيين يعيشون بين ظهرانيها، ويتمتعون بحقوق متساوية مع اليهود، وأن يصبحوا جزءاً من إسرائيل. وهم لا يستطيعون قبول ذلك، لأنهم يحملون مفهوماً صوفياً عن إسرائيل، باعتبارها «دولة يهودية»، وبالطبع فإن الأمر الواقع يظهر أن سكان إسرائيل العرب، والمناطق الفلسطينية المحتلة، الذين لا يتضمنون المسلمين فقط وإنما الكثير من المسيحيين أيضاً، يعادلون الآن نصف تعداد إجمالي السكان. وثمة حقائق ملموسة تشكل حاجزاً ضخماً ضد إقامة الدولة الواحدة، وهي أشياء لا يدركها كثيرون، أهمها أن معدلات الإنجاب عند السكان العرب تعتبر أكبر من مثيلتها عند اليهود الأوروبيين المعروفين بـ«الأشكناز»، الذين يشكلون سكان النخبة في إسرائيل. وهذا ليس له أي علاقة بالمواصفات العرقية، وإنما جاء نتيجة مستوى المعيشة الأكثر انخفاضاً، الذي يؤثر في سلوكيات البشر الذين ينجبون الأطفال، وهي حقيقة عالمية نراها أمامنا. ولهذا السبب فإن الشعب العربي لايزال شاباً نسبياً، وفيه نسبة مرتفعة من الأطفال، وعندما تقصف إسرائيل مكاناً مثل غزة أو لبنان، كما تفعل مراراً وتكراراً، فإنها دائماً تقتل مئات الأطفال، لأنهم يشكلون نسبة كبيرة من السكان، لكن دولة متقدمة مثل اليابان تتميز بمعدل منخفض من الخصوبة تواجه مستقبلاً يكون فيه معظم السكان من العجائز، كما أن تعداد السكان في انحدار متواصل. وتتميز الدول الأوروبية، ودول شمال أميركا، بمعدل منخفض من الخصوبة، لا يمكنها من خلاله تعويض تعداد السكان المنحدر لديهم. وبالطبع فإن أميركا وفرنسا، أو أسرائيل، أو أي دولة مماثلة ليس لديها من الأطفال ما يكفي، ليحلوا مكان كبار السن، وهذه حقيقة أساسية للمجتمع المتقدم الذي يعيش رفاهية كبيرة. والأفراد الأثرياء الذين يعيشون حياة تكثر فيها المطالب، لا ينجبون عدداً كبيراً من الأطفال في أي مكان من العالم، إذ إنهم يدركون أنهم كلما أنجبوا عدداً أقل من الأطفال، فإنهم سيعيشون حياة أفضل وأكثر رفاهية، بالنظر إلى أن مزيداً من الموارد ستكون مركزة عليهم. وهذا هو السبب الحقيقي وراء معظم سياسات الهجرة التي تقوم بها الدول، وليس من قبيل السخاء والكرم واللطف في مساعدة الآخرين. لكن بالطبع، فإن إسرائيل لديها مشكلة عويصة مع الهجرة، أيضاً، وباعتبارها «دولة يهودية» فهي مفتوحة فقط لصنف واحد من المهاجرين، وهذا الصنف من البشر يمثل جزءاً صغيراً جداً من سكان العالم. وإضافة إلى ذلك، فإن معظم أفراد هذا الجزء الصغير يعيشون في أماكن غنية مريحة، أفضل بكثير من العيش في إسرائيل. وبالطبع فإن حل إسرائيل كدولة واحدة سيتضمن الأوروبيين أصحاب معدل الإنجاب المنخفض، إضافة إلى العرب أصحاب معدل الإنجاب المرتفع، وعلى المدى البعيد سيكون اليهود أقلية في إسرائيل، وهي حقيقة يرفضها جميع اليهود المحافظين وآخرون أيضاً، على ضوء النظرية التي تأسست عليها إسرائيل باعتبارها ملاذاً من معاداة واسعة للساميين، إضافة للنظرية المبهمة وهي «الدولة اليهودية»، والأساطير التي تقول إن الرب أعطى هذه الأرض لليهود بصورة خاصة. وعلى الرغم من أن إسرائيل لا تناقش موضوع معدل النمو السكاني على الملأ، إلا أن السلطات والخبراء المختصين بهذا الشأن يدركون هذه الحقيقة، ولهذا السبب بالتحديد يصعب عليهم تخيل قبول دولة واحدة، وعندما تجد دولة تقوم على الأيديولوجية والأساطير كإسرائيل، فإنك ستصطدم سريعاً مع العديد من الحقائق السيئة. وبناء عليه، إذا لم تكن هناك دولة فلسطينية، فما الخيارات الأخرى المتوافرة لدى إسرائيل؟ من الواضح أن هناك خيارين اثنين: الأول يتمثل في طرد جميع الفلسطينيين وهو فكرة ربما كانت غير عملية، على الرغم من أنه تمت مناقشتها جدياً بين الطبقة المثقفة في إسرائيل بصورة دورية. وبمعزل عن الدلالات النازية لمثل هذا العمل، فمن الذي سيقبل دخول ملايين الأشخاص إلى بلاده، بعد أن تطردهم إسرائيل؟ في الماضي اقترح المنظرون الإسرائيليون أن تكون الأردن وجزء من مصر احتمالاً وارداً. لكن هل من الممكن أن يصدق أي شخص عقلاني أن تقبل هاتان الدولتأن نزوح ملايين البشر إليها؟ بالطبع لا، ومع ذلك فإن المنظرين الإسرائيليين ناقشوا هذه الفكرة مراراً وتكراراً. وبالطبع هناك المشكلة الأخلاقية في إبعاد ملايين البشر بصورة قسرية ومصادرة جميع ممتلكاتهم، بيد أن الأخلاق لم تكن ذات أهمية في سياسات إسرائيل منذ بداية تأسيسها. أما الخيار الثاني فهو إعادة إنشاء «نظام الأبارتهيد» (التفرقة العنصرية)، الذي كان موجوداً في جنوب إفريقيا، حيث يتم تخصيص جيوب صغيرة من الأرض تكون الحياة فيها سيئة عادة، إذ يتم تجميع جميع الأشخاص الذين لا نرغب فيهم، ونعلن أن هذا المكان هو وطنهم الجديد. ونحن نرى ذلك في إسرائيل، خصوصاً في غزة، التي تعتبر معسكراً ضخماً للاجئين، والتي تشبه إلى حد ما أكبر معسكرات الاعتقال، لكن مع وجود سياج أعلى، تحيط به أبراج لإطلاق الرصاص من بنادق آلية، ولا يسمح للسكان بالحركة ولا القيام بأي نشاط اقتصادي، وعلى سبيل المثال فإن صيادي الأسماك في غزة يتعرضون لإطلاق النار من البحرية الإسرائيلية، كلما ابتعدوا قليلاً عن الشاطئ للبحث عن رزقهم. وبالطبع فإن العالم لن يتسامح مع هذا الأسلوب في اضطهاد البشر، مهما مارست الولايات المتحدة من ضغوط ظالمة، وهي أصلاً تعاونت مع جنوب إفريقيا خلال «حكم الأبارتهيد»، وأمنت لها الحماية لفترة طويلة من الزمن. ومن الواضح أن هذين الخيارين ليسا بحلين، إذ إن الواقع يفرض حل الدولتين، الذي لم يقبله قادة إسرائيل، على الرغم من أنهم قالوا ذلك شفاهاً. وفي الحقيقة فإن إسرائيل أوجدت مشكلة عويصة، وهي الآن عاجزة عن حلها، لهذا فإنه دائماً كان يتعين على الولايات المتحدة أن تملي الحل، وهي عاجزة أيضاً. ولايزال العالم يدور حول هذه المشكلة المعقدة، لكن دون أن يقدم أي شيء حاسم. جون تشوكمان كاتب كندي