السمار، المنازل الملونة، الملابس الزاهية، بوٌاب العمارة، السفرجي. كل هذه صور نمطية محدودة تخطر للقارئ العربي عن الحديث عن أهل النوبة، أحد الأعراق الأكثر تهميشاً في مصر. قلة فقط يعرفون تاريخ النوبيون وجذورهم الضاربة في أصل أرض النيل. فهم ليسوا أناس حطّوا رحالهم في جنوب مصر وشمال السودان فقط. اعلان فالنوبيون هم أحد الأعراق التي تتمتع بخصوصية الملامح والتقاليد والثقافة، وتعيش في المناطق الممتدة على ضفاف النيل في عدة دول أفريقيا، وما مصر إلا جزء من موطنهم.نوبيو مصر سكن النوبيون في مطلع القرن العشرين في "٣٩ قرية على امتداد ٣٥٠ كيلومتراً جنوب أسوان حتى خط عرض ٢٢ (وادى حلفا) على ضفتى النيل شرقاً وغرباً"، بحسب دراسة نشرتها صحيفة المصري اليوم، نقلاً عن لجنة المتابعة المنبثقة من الهيئات النوبية فى الإسكندرية. إلا أنهم عانوا من التهجير، وتفرقوا بين المدن المصرية وأبعدوا عن النهر الذي روى حياتهم، ولم يعوّضوا عن ذلك. يقول هشام جمال، أستاذ الجغرافيا في جامعة أسوان، أن أهل النوبة تهجروا على 4 مراحل أولها عام 1898 مع بداية بناء خزان أسوان حتى 1902، حيث تهجر حينها سكان 10 قرى. المرحلة الثانية جاءت في 1912، عند التعلية الأولى للخزان، فترك سكان 5 قرى أرضهم. أما المرحلة الثالثة فكانت في 1934، حينما تهجرت7 قرى، حصل أهلها على تعويص هزيل. ثم جاء التهجير الأكبر والأخير عام 1964، فأُفرغت 44 قرية من أهلها، بغرض بناء السد العالي الذي شيده جمال عبدالناصر. وقد حاولت الحكومة تعويضهم، لكن التقدير مان مجحفاً لهم، بحسب جمال. ففي حين تكلفت الحكومة المصرية تكلفة تهجير النوبيين السودانيين الذين تضرروا من البناء، واستصلحت لكل بيت منهم 15 فدان حتى من لم يمتلك أرضاً، أهدرت حق النوبيين المصريين فمن كان له 5 بيوت عوضته ببيت واحد بمساحة لاتتعدى 200 متر. يعتقد جمال أن هدف عبد الناصر الأساسي من التهجير الأخير هو صهر النوبيين داخل فئات المجتمع المصري، لشدة تمسكهم بلغتهم وتقاليدهم وخصوصيتهم، وليس إنشاء السد العالي كما يقال. فكان، بحسب جمال، يخشى أن ينفصل أهل النوبة ويؤسسوا قومية خاصة بهم. أقوال جاهزة شاركغرديرغب النوبيون بالعودة إلى موطنهم الأصلي لكن الحكومة ترفض بذريعة الأمن القومي اليوم، يعيش حوالي 5 مليون نوبي في شتات، بحسب جمال. ولا يوجد احصائيات دقيقة تؤكد أو تغالط هذا الرقم. يسكنون في المناطق الواقعة غرب مدينة أسوان حتى غرب سهيل، وهي جزيرة نيلية جنوب أسوان، وبين قرية بلانة حتى قرية المضيق، وهم المجموعة التي هجّرها بناء السد. كما توجد قرى نوبية منفصلة في قنا والأقصر، من توابع هجرة خزان أسوان في الثلاثينات. يرغب هؤلاء السكان بالعودة إلى قراهم الأصلية، لكن الحكومة ترفض ذلك بذريعة "الأمن القومي". حتى وصل الأمر لاتهامهم بخيانة الوطن، لتلويح البعض منهم بتدويل قضيتهم.انتماء وتمسك بالجذور يتحدث الناشط النوبي، عبد الفتاح حسن، عن التُهم التي تعرض لها أبناء عرقه في مصر، ويدافع عنهم قائلاً: "لم يستطع غازِ أبداً أن يدخل مصر من النوبة، لم يستطع المسلمون فتح النوبة بالحرب ولكن دخلها طواعية عبر التجار، ولم تفلح الحملة الفرنسية في ذلك رغم دخولها الصعيد لذا يطلقون على أنفسهم حراس البوابة الجنوبية". وكأي مجموعة تعيش في ما يشبه الشتات، يحاول النوبيون الحفاظ على تفاصيل تقاليدهم وتربية أبنائهم عليها. "هناك 44 جمعية و8 أندية نوبية تجمع النوبيين بشكل ثابت في المدن المصرية المختلفة"، يقول حسن. لأهل النوبة لغتهم الخاصة، فيها لهجات مختلفة. ففي مصر لهجتين هما الكنزية والفاديجية، بحسب جمال، فيما يتحدث أهل النوبة بالسودان ثلاث لهجات هي المحس، والسكوت، والدنقلية. ويحاول الآباء الحفاظ على هذه اللهجات وتعليمها لأبنائهم. لكنها لا تُدرس في المدارس ولا تُعتبر لغة رسمية في مصر.النوبة قديماً اسم النوبة مشتق من كلمة "نوب" وتعني الذهب، وسميت المنطقة بذلك لأن بها أكبر مناجم الذهب في مصر بمنطقة العلاقي. ولهذه المنطقة التي حملت اسم الذهب تاريخ قديم.أكمل القراءة يقول جمال، إن النوبة امتدت تاريخياً من صعيد مصر إلى جنوب نهر النيل، وانقسمت إلى ثلاث ممالك: كوش ومروي ونباتا. وضمت دول حوض النيل: أثيوبيا وتنزانيا والسودان والكونغو. "النوبة أقدم من الفراعنة"، يقول جمال. "فالثابت تاريخياً أن أول استقرار بشري على مستوى العالم بمستعمرة نبتابلاي، غرب معبد أبو سمبل، وهي مستعمرة نوبية، واكتشفت أقدم مقبرة بالتاريخ بمنطقة قسطل". وقد شُيدت أهرامات مصر ومعابدها من من حجر اسمه الخرسان النوبي. وقد حكم النوبيون مصر الفرعونية في عهد الأسرة الـ18، وهي من أقوى وأشهر الأسر التي حكمت مصر، والأسرة الـ25، والتي نشأت في كوش في مدينة نباتا تحديداً. لهذا شهدت منطقة النوبة ثراءاً في الآثار التي تشد السائحين لزيارتها. ففيها معابد الدر والمحرقة وعمدا والسبوع وهي من المعابد الصغيرة. وهناك أبي سمبل الكبير والصغير، وكلابشة، الذي يعتبر أكبر المعابد المشيدة من الحجر الرملي في النوبة.النوبي والنيل شهد الشيخ وحيد يونس، الذي تخطى الـ75من العمر، مرحلة التهجير الأخير للنوبيين. يحكي لرصيف22 عن تعلقه الشديد بأرضه وبجذورها. يقول:"لايوجد نوبي لايعرف تاريخه، كما أنه مرتبط ارتباط وثيق بالنيل، فهو يقدسه ويحافظ عليه ويحظر عليه تلويثه". فكل من يريد أن يحتفي بمناسبة مهمة ينزل ليستحم في مياه النيل. "العروس تذهب للاستحمام في النيل مع صديقاتها فجر يوم العرس في حين يذهب العريس مع رفاقه بعد شروق الشمس لنيل البركة منه (النيل)"، يقول يونس. حت المولود، يُحمل في اليوم السابع بعد ولادته إلى النهر، ويمسح وجهه بمياهه، وتقول النساء بعض الترانيم والأغاني التي تتمنى للرضيع حياة أفضل. ويعلل يونس ذلك بأن النوبيين منذ القدم اعتقدوا بأن هناك ملائكة تسكن النيل، وأخذ الفراعنة عنهم هذا الاعتقاد فظهر طقس إلقاء العروس فيه.طقوس أهل النوبة وعاداتهم مازالت تحافط القرى التي يسكنها أهل النوبة على تفاصيل الحياة اليومية القديمة، وهو ما يحكيه حسن. فما زالت البيوت تُبني من الطوب واللبن، ولكل منزل فناء واسع يمكن البناء فيه. وعندما يتزوج الرجل والمرأة، يقوم أهل الزوجة ببناء شقة للعروسين داخل فنائهم، ويتكفل الأصدقاء بتجهيز منزل الزوجية، بينما يقتصر دور العريس والعروس على شراء ملابسهم، بحسب حسن. يظل الزوجان في فناء الأهل حتى تطمئن والدة العروسة بأن ابنتها قادرة على إدارة شؤون المنزل. وغالباً لا يبني الرجل منزله الخاص إلا بعد إنجاب أبناء. ولا تخلو القرية النوبية من الرقص والاحتفال. فتعد رقصة الأراجيد أحد أهم طقوس الاحتفال، حيث تتشكل حلقات مستطيلة من الفئات العمرية الواحدة، وتقوم كل فئة بحركات تلائمه. كما يحتفظ النوبيين، بحسب يونس، بتبركهم بالمشايخ والأولياء فلكل قرية شيخ تذهب النساء برفقة الأطفال له طلباً للبركة والعون في أمور الزواج والإنجاب والنجاح والتوفيق في الأمور المختلف.اقرأ أيضاًرحلة في عالم المصارعة النوبيةالعرق السوداني، تقليد ثقافي لم يوقف تعاطيه حظر الدين والأنظمةالأقباط، مؤسسو السودان الحديث سامية علام محررة صحافية مصرية مهتمة بشؤون المرأة والمجتمع كلمات مفتاحية مصر التعليقات