بعد قطيعة دامت أكثر من نصف قرن، قامت الولايات المتحدة وكوبا بإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما على مستوى السفارة بعدما أوكلت كل منهما للسفارة السويسرية في البلدين رعاية مصالحهما طوال مدة القطيعة.. وقام وزير الخارجية الأمريكية جون كيري بزيارة تاريخية قصيرة لهافانا لحضور حفل رفع العلم الأمريكي على مقر السفارة الأمريكية بعد إعادة العمل فيها من جديد. الحوارات الصحفية والمقابلات المحدودة للوزير كيري في كوبا تكشف عن استمرار الخلافات الجوهرية بين الدولتين فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان وغوانتانامو. أولاً: غوانتانامو - استمرار الاحتلال الأمريكي لإحدى المحافظات الكوبية نظراً لموقعها الاستراتيجي بين الأمريكيتين كانت الولايات المتحدة تطمح دائماً إلى الاستيلاء على كوبا، وجاءت الاضطرابات لتشكل الظرف المناسب، فأنزلت الأخيرة قواتها في الجزيرة وهزمت القوات الإسبانية عام 1898 لينتقل حكم الجزيرة إلى حاكم أمريكي بمساعدة بعض وجهاء كوبا، وبذلك أصبحت كوبا محمية أمريكية، وقد اعتاد كثير من الحكام المستبدين في كوبا على الاستعانة بقوات أمريكية بشكل دائم لإخماد الانتفاضات الشعبية الموجهة ضدهم كما حصل في أعوام 1906 و1909 وكذلك من 1917 إلى 1919. وقد ارتبط بالهيمنة السياسية الأمريكية على كوبا سيطرتها على الاقتصاد الكوبي لا سيما مزارع السكر الشهيرة هناك، وقد أدى كل هذا إلى ازدياد النقمة الشعبية إلى أن قامت مجموعة من الضباط الراديكاليين بانقلاب عسكري عام 1933، وكان من بين الضباط باتيستا الذي نجح في انتخابات 1940 ليقود البلاد بعد ذلك من 1940 إلى 1944 ثم من 1952 إلى 1959، وتميزت مدة حكمه بالفساد والارتباط بشبكات البغاء والمخدرات في فلوريدا، كما تميزت بالخضوع الاقتصادي التام للولايات المتحدة. لكن ما عمق من الجراح الكوبية قيام الولايات المتحدة بإبرام عقد استئجار محافظة غوانتانامو الكوبية إلى 23 فبراير 1903، مع الحكومة الكوبية ممثلة برئيسها طوماس مقابل 2000 دولار أمريكي سنويا في عهد الرئيس ثيودور روزفلت، لذا سرعان ما أعلن الثوار الوطنيون في كوبا اعتراضهم ورفضهم لذلك القرار، وعلى إثر ذلك لم تقم الحكومات الكوبية المتتالية بصرف الشيكات اعتراضاً على قرار الإيجار، وعلى الرغم من ذلك ترسل الولايات المتحدة الأمريكية شيكا بقيمة 2000 دولار سنوياً إلى حكومة كوبا. وتعتبر هافانا عقد الإيجار المبرم بين كوبا الحكومة الأمريكية منذ مطلع القرن الماضي ملغياً، وتطالب بعودة المنطقة إليها، وهو ما أعلنه صراحة وزير الخارجية الكوبي برونو رودريغيز من أن كوبا مستعدة لمناقشة جميع القضايا مع الولايات المتحدة، بما فيها منطقة غوانتانامو، حيث طالب وزير الخارجية الكوبي الولايات المتحدة بإعادة المحافظة التي تتخذ منها الولايات المتحدة قاعدة عسكرية على الأراضي الكوبية منذ أكثر من خمسين عاماً وإخلاء القاعدة العسكرية منها إلى جانب إنهاء الحصار الاقتصادي على بلاده. وقد جاءت مطالبة وزير الخارجية الكوبي برونو رودريغز بعدما انتهت الاحتفالات الرسمية بفتح السفارة الكوبية في العاصمة الأمريكية ورفع العلم الكوبي في سماء واشنطن، حيث اعتبرتها كوبا خطوة حاسمة لتطبيع العلاقات بين الجانبين، وهو ما رفضه وزير الخارجية كيري الذي ذهب إلى أن حكومة بلاده تدعم بقوة رفع المقاطعة الاقتصادية المفروضة على كوبا منذ مطلع ستينات القرن الماضي بشكل كامل، إلا أن ذلك يتطلب موافقة الكونغرس الأمريكي، بيد أن الأغلبية البرلمانية للجمهوريين في الكونغرس الأمريكي ترفض هذه الخطوة بشكل قاطع، وبخصوص إعادة غوانتانامو على كوبا قال كيري إن هذا الموضوع غير وارد أساساً بالنسبة للولايات المتحدة خاصة أنها تستخدمها حالياً كمعسكر لاعتقال عناصر القاعدة بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001. ثانيا: بشأن حقوق الإنسان في كوريا تتبنى الإدارات الأمريكية المتتابعة منذ عام 1992 وحتى وقتنا الراهن قضية نشر ثقافة واحترام وتعزيز حقوق الإنسان في الدول النامية ضمن قضايا أجندتها العالمية، وهو ما يتضح بشكل جلي وواضح في تصريحات الرؤساء الأمريكيين طوال هذه الفترة، واعتمدت الإدارات الأمريكية المتتابعة على مسارين متلازمين للتحرك في مجال تعزيز احترام وحماية حقوق الإنسان في الدول النامية عموما وكوبا على وجه الخصوص؛ هما: الدبلوماسية متعددة الأطراف: قامت الولايات المتحدة باستخدام المؤتمرات الدولية التي تدعو منظمة الأمم المتحدة أو المنظمات الإقليمية إليها لممارسة الضغط على كوبا وغيرها من الدول مثل إيران وكوريا الشمالية والتي لديها سجل طويل في انتهاك حقوق الإنسان المدنية والسياسية لتعديل وتغيير سياساتها في هذا الشأن، إلى جانب قيامها بتخصيص مبالغ سنوية من الميزانية السنوية الفيدرالية للولايات المتحدة لدعم المنظمات الدولية المعنية بالتنمية وتعزيز الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان تراوحت بين مئة وعشرين مليون دولار و350 مليون دولار، ومن أبرز المنظمات التي تتلقى هذا الدعم السنوي: البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، وبرنامج الأمم المتحدة للطفولة ( اليونيسيف)، ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، علاوة على تقديم الدعم المالي والسياسي لبعض المنظمات غير الحكومية المعنية برصد انتهاكات حقوق الإنسان في كوبا وغيرها من الدول النامية مثل منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش. ولاقت الأطروحات والأفكار والسياسات الأمريكية بشأن توطيد دعائم الديمقراطية وحقوق الإنسان في الدول النامية رفضاً وانتقاداً من جانب كوبا والصين وإيران وكوريا الشمالية للسياسات الأمريكية في أعقاب أحداث 11 سبتمبر بسبب سوء معاملة بعض المعتقلين العرب والأفغان المشتبه فيهم وانتهاك كل حقوقهم المدنية والسياسية في معسكر غوانتانامو؛ وكذلك بسبب سوء معاملة السجناء في العراق على يد عسكريين أمريكيين خلال حرب واحتلال العراق 2003. ب - الدبلوماسية الثنائية: تتبنى الولايات المتحدة في سياستها الخارجية عموما تقديم معونات للدول النامية الساعية لتطبيق معايير الإصلاح السياسي وتعزيز حقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية واحترام حكم القانون، ويتم تقديم هذه المعونات منذ عام 1992/ 1993 بعد موافقة وإصدار الكونغرس لمشروع القانون الذي قدمته إدارة الرئيس كلينتون لهذا الغرض، وقد استخدمت إدارة الرئيس بوش هذه المعونات كأداة لتحفيز الدول النامية للمضي قدماً في عملية الإصلاح السياسي واحترام حقوق الإنسان، وعادة تستحوذ منظمات المجتمع المدني، بما تشمله من جمعيات أهلية ومراكز بحثية وبعض الأحزاب السياسية وجماعات المصالح والجمعيات الفئوية متخصصة في تقديم خدمات استشارية أو نشر مواد ثقافية خاصة بحقوق الإنسان؛ وكذلك خدمات التأهيل والتدريب للموارد البشرية، وبدءاً من عام 1995، تقوم وكالة المعونة الأمريكية بتخصيص جزء من هذه الموارد والمخصصات المالية لصالح أنشطة ومشروعات منظمات حقوق الإنسان في كوبا. وغني عن البيان أن بعضاً من قيادات المعارضة السياسية في كوبا يستحوذ على إدارة عدد من الجمعيات والمنظمات النشطة في مجال رصد انتهاكات حقوق الإنسان في كوبا، لذا وفرت بعض تقارير هذه المنظمات مادة ومعلومات خصبة ووفيرة عن حدوث انتهاكات متعددة لحقوق الإنسان في كوبا اعتمدت عليها في مرحلة تالية التقارير السنوية لحالة حقوق الإنسان في دول العالم والتي تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية ويناقشها الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب أثناء جلسات استماع وتقييم للسياسة الأمريكية تجاه كوبا. وعلى الرغم من الإعلان المسبق من قبل الدولتين على استئناف العلاقات الدبلوماسية فيما بينهما، فقد آثرت وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها السنوي 2014 الصادر في نهاية يونيو/حزيران 2015 التوسع في سرد أوجه وأنماط انتهاك الحقوق المدنية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في كوبا بدءاً من النساء مروراً بالمثليين الشواذ والمعاقين والأطفال ومرضى الإيدز والعجزة وكبار السن، وهو ما تسبب في هجوم وزير الخارجية الكوبي على سياسات الولايات المتحدة في الداخل الأمريكي والساحة الخارجية الدولية ونعتها بالمتاجرة بحقوق الإنسان في إطار مصالحها الخاصة، وأنها لا تختلف عن أي من دول العالم في انتهاك حقوق الإنسان، خاصة من ذوي الأقليات العرقية والإثنية والمهاجرين للحفاظ على مصالح غالبية سكانها البيض الأصليين واستقرارها الأمني، وتعهد بقيام كوبا بذات السلوك والتحركات الأمريكية بشأن حقوق الإنسان، حيث سيتم تكليف أجهزة الدولة في كوبا برصد وتتبع حالات انتهاك حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، والملاحظ أن هذا الموقف الكوبي يبدو أنه محل اتفاق بين كل المسؤولين الكوبيين، حيث قالت كبيرة المفاوضين الكوبيين في المحادثات مع واشنطن جوزفينا فيدال إن الشؤون الداخلية لكوبا لن تُطرح على طاولة التفاوض، وأن هافانا لن تتحرك مليمتراً واحداً في محاولة للرد على ذلك. بينما برر وزير الخارجية الأمريكي استمرار العقوبات الاقتصادية الأمريكية على كوبا بموافقة أعضاء مجلسي الكونغرس -الشيوخ والنواب - وبصفة خاصة أعضاء الحزب الجمهوري على مشروع قرار يقدم له بذلك وهو الأمر الذي يستحيل تنفيذه حالياً، وقيام الحكومة الكوبية بوقف انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية وإحالة مرتكبيها من الموظفين الرسميين للمحاكمة العادلة. ربما تكون الثمرة الوحيدة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين هي قيام بنك ساوث فلوريدا South Florida بتوقيع صفقة مع بانكو انترناسيونال دي كوميرسيو في هافانا لتبادل التجارة الخارجية، ما يوفر القدرة على نقل الأموال بسهولة وزيادة حجم التبادل التجاري فقط بين البلدين، علاوة على تشجيع الشركات الأمريكية الراغبة في القيام بأعمال تجارية في كوبا، لذا فغالب الأمر استمرار التوتر بين الدولتين بشأن القضايا الخلافية الرئيسية بينها واستخدام السفارات والأداة الدبلوماسية في إدارة هذا النزاع والتوتر لما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة. د. رضا محمد هلال * باحث وأكاديمي مصري