د. محمد الصياد الغزل الصريح الذي أظهره الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، تجاه روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، الذي بادله الأخير بغزل استحيائي، إنما فضحت صراحته أجهزة الإعلام الروسية، خصوصاً منها فضائية «روسيا اليوم» الناطقة بالإنجليزية، هذا الغزل يعيد إلى الأذهان تغزل الولايات المتحدة بالصين منذ إقدام الرئيس نيكسون على تسمية الصين باسمها الرسمي (جمهورية الصين الشعبية) في تقريره حول السياسة الخارجية الأمريكية، وهو ما لم يفعله أي رئيس أمريكي من قبل، في الوقت نفسه الذي أقدمت فيه الصين لأول مرة منذ سنوات، على إرسال فريق لكرة الطاولة (البنغ بونغ) للمشاركة في الدورة العالمية لكرة الطاولة في اليابان التي قدم خلالها الفريق الصيني دعوة للفريق الأمريكي لزيارة الصين. حيث تمت الموافقة الفورية على هذه الدعوة، وتمت الزيارة في إبريل/نيسان 1970، وسرعان ما تبعتها تحركات أخرى من الطرفين أدت إلى اتفاقهما على إنهاء القطيعة، «ومبايعة» الولايات المتحدة للصين الشعبية، وسحب اعترافها بالصين الوطنية (تايوان)، وكل ذلك في إطار استراتيجية إعادة تموضع أملتها الهزائم الأمريكية المتتالية في فيتنام، وكمبوديا، ولاوس، وحاجة الصين للخروج من العزلة الدولية، واشتداد حمى المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فكان التقارب مع بكين المتخاصمة أيديولوجياً مع موسكو، باعتباره حاجة ملحة لاستعادة زمام القيادة الاستراتيجية العالمية.السؤال الآن: ما الذي دفع الرئيس ترامب، حتى قبل فوزه في الانتخابات، للإعلان صراحة عن نيته تغيير سياسة بلاده تجاه روسيا، والتعاون مع رئيسها فلاديمير بوتين، في موقف مناقض بصورة صادمة لموقف المؤسسة الأمريكية الحاكمة وقياداتها، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري اللذين يعتبران معاداة روسيا سياسة مقدسة لا يمكن لأي مسؤول أمريكي الحياد عنها، تحت أي ظرف، بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم في روسيا، سواء أكان قيصرياً، أو اشتراكياً، أو قومياً استقلالياً، كما هو حال النظام الحالي الذي يقف بوتين على رأس هرمه، والذي وصل الإعلام الأمريكي والأوروبي الغربي الرسمي في حملة شيطنته إلى درجة تشبيهه بالزعيم النازي أدولف هتلر؟القراءة المدققة لمفردات خطابات ترامب السياسية في ما خص منظوره الاستراتيجي، غير المقطوعة (تلك المفردات) بالضرورة عن سياقاتها، لربما أسعفتنا قليلاً، في استنباط مرامي ترامب من ذهابه باتجاه روسيا، لحد إرباك وتخويف الشركاء التابعين للولايات المتحدة في أوروبا الغربية بالجهر علناً، وبصورة دراماتيكية بحقيقة موقفه من منظمة حلف شمال الأطلسي المُنشأة خصيصاً لمواجهة الاتحاد السوفييتي، ووريثته روسيا، بوصفه إياها بأنها «من مخلفات الماضي». فالرجل واضح وصريح بأنه جاء ليعيد الاعتبار للرجل الأبيض الذي كانت تعبر عنه بصورة عنصرية وإرهابية منظمة كو كلوكس كلان، وأن يدافع عن مصالح هذه الشريحة من المجتمع الأمريكي التي بدأت تضمحل في بحر التنوع العرقي، والإثني الذي أنتجته سياسة ممثلي مصالح رأس المال، وأرباب العمل في السلطتين التنفيذية والتشريعية، المتمثلة في فتح الباب أمام الهجرة من الخارج لتزويد سوق العمل الأمريكي بما يفيض عن حاجته من العمالة الرخيصة غير المغطاة بشبكة الأمان الاجتماعي ونفقاتها. وهو ظل يردد على الدوام شعار حملته «أمريكا أولاً»، ويقصد بطبيعة الحال تقديم مصلحة الولايات المتحدة على مصالح أية دولة، ولو تطلب الأمر الاقتصاص منها بإحدى طرق الابتزاز العلني، والفج التي عبر عنها صراحة قبل، وبعد انتخابه، ومصلحة الأمريكيين الأصليين الذين يدين لهم بالجميل في إيصاله إلى سدة الرئاسة. وبالجدل المنطقي يميل البعض في تأويله إلى فرضية نقل ترامب لهذه «الفلسفة» العصابية، النرجسية، إلى فضاء العلاقات الدولية، ومنها علاقات بلاده مع روسيا، على أساس الاصطفاء العنصري (الأبيض)، ومجافاته للصين من ذات المنطلق الاستعلائي على الأقوام الأخرى (الصفراء والملونين، الصينيين والمكسيكيين هنا)، والتلاقي العاطفي مع اليهود على أساس اجتماع المسيحية المتصهينة مع الصهيونية اللاهوتية العنصرية.هذا منظور تأويلي ينطوي على بعض المعقولية، أخذاً في الاعتبار خطاب ترامب ذا النفحات التمييزية، لولا أن معقوليته تفتقر إلى الأسانيد المادية، أي الاقتصادية، التي تعتبر المحرك الأساس لسياقات العلاقات الدولية. إنما السؤال: وهل تقامر روسيا برصيد علاقاتها الاقتصادية والجيو- استراتيجية الراسخة مع الصين، وتُقدم على خطوات من شأنها تبديل تحالفها مع الصين بتحالفها مع الولايات المتحدة في عهدها الرئاسي الجديد الحافل بالضجيج واللا يقين الفوضوي؟ alsayyadm@yahoo.com