هل من المنطق أن يستجيب المرء لكل ما تشتهيه نفسه على كل حال!! طعام وشراب ولباس وأجهزة وماركات!! كم مرة ارتدتَ السوق لغرض محدد ووجدت نفسك في نهاية المطاف محملاً بأكياس تحوي أغراضاً ما كنت بحاجة إليها بالأساس لكن نفسك تاقت لامتلاكها!! تأمل عربات الناس في الأسواق؛ أكوام من الأغراض المتراكمة فوق بعضها بالكاد يدفعها صاحبها، تستغرق وقتاً ليس بالقصير لتمريرها على جهاز المحاسبة، أكثر من نصفها لا لحاجة فعلية لها، أو مؤذية للجسد غير صحيّة على الإطلاق. هل اللذة تكمن في الحصول على الأشياء التي نشتريها، أم في استخدامها والإفادة منها؟! في كتاب (الإنسان ذو البعد الواحد) أشار مؤلفه «ماركوز» إلى أن المجتمعات المدنية الاستهلاكية تجعل الناس مأخوذين بالطابع الاستهلاكي، بحيث يتعرفون على أنفسهم ليس بأخلاقياتهم وقيمهم وإنما من خلال بضائعهم، ويجدون جوهر روحهم فيما يستهلكون ويشترون. هذا الطابع الاستهلاكي هو الذي أرغم الناس على العيش في مجتمعاتهم من خلال بعدهم الشخصي الواحد، وهو البعد الذي يستجيب لنمط الاستهلاك، وبالتالي تخدّر لديهم بعدهم الداخلي، المتمثل في ذاتهم الناقدة. فليس بمقدورهم المعارضة أو الرفض أو الاعتراف بأنهم لا يريدون فعلياً اقتناء أشياء لمجرد اشتهائها، ولا مناقشة المسألة برمتها بالأساس. المحلل النفسي إيريك فروم أطلق على النزعة الاستهلاكية ما أسماه «العبادة الصنمية للأشياء» بحيث يصبح الإنسان عبداً للاستهلاك مأخوذاً بهوس الشراء. فيمتثل الإنسان لحياة، ما وصفهم فروم، ب «القطيع» الاستهلاكية التي تعيش عليها الغالبية العظمى من الناس، ويصبح، وبشكل لا شعوري، خاضعاً على نحو آلي لسلطة خارجة عن إرادته، تجسد قوة خفية لإذعانه والاستجابة إليها. تأتي واحدة من أهم أوجه هذه السلطة متمثلة في «وسائل الدعاية والإعلان» التي تمارس جميعها أسلوب «الإغراء المبتذل». ولعلّ هذه السلطة بلغت أوجها اليوم في الإعلانات التي تقدم على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث مواقع التسوق والمطاعم والأكلات والماركات والإكسسوارات التي تصلك في مكانك بمجرد نقرة طفيفة وشهوة طارئة. إن خطورة النزعة الاستهلاكية تكمن في الاعتقاد أن اللذة تتمثل في الحصول على ما أريد وليس في الانتفاع به فعلياً!! ولذلك تبدأ أزمة الناس في تنامي «هوس الشراء» لكل ما هو جديد، وليس ما أحتاجه حقيقة. وتتضاعف هذه الخطورة، حسب رأي فروم، عند انسحاب نزعة الاستهلاك على القيم الإنسانية، بحيث يكون في مقدور المال شراء الحب، والاحترام، والفضيلة، وتصبح حينها المشاعر والقيم والخصائص الأخلاقية أشياء تخضع لقانون الاستهلاك المادي !! ويحيل إيريك فروم، بوصفه محللاً نفسياً، هذه الآفة المتمثلة في هوس الشراء والاستهلاك إلى سبب خفي يتمثل في إحساس الإنسان بالفراغ والتوتر، وتحول الاستهلاك إلى وسيلة للهروب من القلق، بإفراغ الإنسان طاقته السلبية في الشراء ونزعة التملك تعويضاً عن فقدان الأمن والاستقرار النفسي، ورغبة في لفت أنظار الناس فحسب. «جان جاك روسو» يشير إلى أن شيوع الاستهلاك المادي للأشياء هو «السبب» الذي يفضي إلى فساد طبائع الناس، وشيوع فكرة الأقنعة الاجتماعية والتزييف القائم على أدوات التنكر، والتركيز أثناء اجتماعات الناس على ملاحظة ما يقتنون أكثر مما يعتنقون من قيم وما يتمثلون به من أفكار وأخلاق . كما أن الفيلسوف الوجودي «هيدجر» يرى أن في لهاث الناس للحصول على كل ما هو جديد، رغم عدم حاجتهم الحقيقية إليه، إنما هو مظهر لسقوط الذات السافر، بحيث إن الإنسان غدا مستميتاً في البحث عمّا يصرفه عن الالتفات لنفسه، والانتباه لحالته، وتطوير ذاته. والنتيجة هو أن يتلبس الإنسان حالة من الشتات عمّا يحتاج إليه فعلاً وما يشتريه. عدم الاستجابة الفورية لشهوات النفس بالشراء قيمة عليا ينبغي التدرب عليها «اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم» ودرس اقتصادي وأخلاقي على نحو ما قال عمر بن الخطاب مستنكراً على جابر بن عبدالله، رضي عنه، في استجابته لشهوة النفس بالشراء «أو كلما اشتهيتَ اشتريتَ يا جابر!».