لم تكن المصوّرة الفوتوغرافية المصرية منى حسن تعلم أن رحلتها إلى قرية البرلس (تقع بمحافظة كفر الشيخ في مصر) ستجعلها تتعرف على كنز فني صنعته أيادي 40 فناناً من 14 دولة. توجهت منى بكاميرتها بهدف التقاط بعض الصور لبحيرة البرلس (بحيرة مصرية تقع بين البحر المتوسط وبوغاز البرلس)، لكنها فكرت أن تتجول بكاميرتها في القرية، لتكتشف جداريات فنية مرسومة بألوان زاهية على بيوت أهالي المنطقة الفقيرة. اعلان قررت منى أن توثق بكاميرتها هذه الجداريات لتقول للجميع "تعالوا لتشاهدوا كيف غيّر الفن المكان للأفضل". تقول منى لرصيف22: "حين ذهبت إلى البرلس كان هدفي هو التقاط صور للمراكب التي تقف على شواطىء البحيرة الشهيرة، لكن اهتمامي بتصوير الشارع جعلني أسير في شوارع القرية البسيطة الخالية من كل الرفاهيات الموجودة في القاهرة، وحين شاهدت الرسوم على حوائط البيوت دُهشت. بصفتي دارسة للفنون الجميلة وجدت أن الرسوم محترفة لدرجة أنني استبعدت أن يكون أهالي المنطقة هم من رسموها، لا سيما أن البيوت مبنية من أحجار خشنة، ومن الصعب أن تتعامل معها الفرشاه بسهولة". تحدثت منى مع الأهالي فعرفت أن الجداريات جزء من مشروع فني يديره فنان تشكيلي من أبناء المحافظة. تكمل: "ما أعجبني هو أن سكان المنطقة يتعاملون مع اللوحات بحب ويحافظون عليها". أكمل القراءة رحلة إلى البرلس تبتعد البرلس عن القاهرة حوالي 300 كم، وتتضمن العديد من المعالم التاريخية مثل فنار البرلس، لكن الحكومة المصرية لم تبذل أي مجهود يذكر لوضع المنطقة في خريطة السياحة برغم وجود أماكن طبيعية ومحميات، كما أنها عاصمة صناعة مراكب الصيد في مصر. كذلك تشتهر المنطقة بمنتجات معينة جودتها عالية، منها الأسماك، والبلح والجوافة. وعلى عكس سكان القاهرة الغاضبين دائماً بسبب الزحام والضوضاء، ستلاحظ حين تسافر إلى البرلس أن أهلها هادئون والبسمة لا تفارق وجوههم. أقوال جاهزة شارك غردسترغبون بزيارة هذه القرية المصرية بعد أن تشاهدوا الألوان على جدرانها... قال لنا طفل صغير اسمه أحمد، عمره 11 سنة، إنه شارك في تلوين الجداريات، وأضاف لرصيف22 "أنا وزملائي شاركنا الرسامين الأجانب في إنجاز هذه اللوحات، أتمنى أن تتكرر هذه التجربة، كانت مناسبة مثل العيد بالنسبة لنا، لعبنا وغنينا واستمعنا للموسيقى". أحمد ليس الطفل الوحيد الذي شارك في تلوين هذه الجداريات مع 40 فناناً من 14 دولة، فأغلب أطفال وشباب المنطقة شاركوا في الحدث الذي يهدف لجعل شوارعهم أجمل. ولا يختلف حال أطفال البرلس عن أطفال باقي القرى والمحافظات المصرية البعيدة عن القاهرة، فهي بعيدة عن أي اهتمام حكومي جاد، لا توجد فيها مسارح، ولا دور سينما، ولا أندية أو أماكن ترفيه، وطبعاً لا مراكز تعلمهم الفن وحب الحياة. لذلك قرر الفنان التشكيلي المصري عبد الوهاب عبد المحسن (الصورة) أن يطلق مشروعه "مؤسسة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن"، كمنظمة غير هادفة للربح ترمي لتنمية المنطقة كلها بالفن والإبداع. والمؤسسة هي صاحبة فكرة الجداريات التي غيرت المنطقة تماماً. [/caption]يقول الفنان المصري لرصيف22 "رفضت أن تسرقني القاهرة وأنسى المحافظة التي ولدت بها، كان يجب أن يكون لي دور في تنميتها، فكفر الشيخ تستحق الاهتمام بها، إذ لا توجد فيها أي خدمات ثقافية حقيقية، أردت أن أقول إن الفن قادر على تغيير المجتمعات للأفضل". حكاية الجداريات الجداريات المرسومة على جدران المنازل جزء من أنشطة ملتقى سنوي تقوم به مؤسسة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن للسنة الثالثة على التوالي. فترة الملتقى تدوم أسبوعين، وكل مرة تدعو المؤسسة فنانين مصريين وأجانب للمشاركة في تنمية المنطقة. هذا العام قدم أكثر من 500 فنان من داخل مصر وخارجها للمشاركة في المشروع كمتطوعين، اختارت المؤسسة منهم 40 من دول عدة منها مصر وكوريا الشمالية والهند ومقدونيا وتونس وإيران والسودان والبحرين. يقول الفنان عبد الوهاب عبد المحسن لرصيف22 "المنطقة ملهمة جداً للفنانين، الذين يدركون أن ريشتهم قادرة على جعلها أفضل، وأن سكان المنطقة فعلاً في حاجة لهم". يؤمن عبد المحسن أن الفن أفضل سلاح لمحاربة التطرف، وأنه كلما أنغمس أهالي مدينة ما في الأنشطة الفنية فهذا سيقتل أي تطرف من أي نوع يرغب في الحياة بينهم. يقول "هدف الملتقى الأساسي هو أن يزيح أي أفكار غريبة على مجتمعاتنا لتحل بدلاً منها أفكار التسامح وقبول الآخر والإيجابية. لمدة أسبوعين كاملين قمنا بأنشطة عدة منها أمسيات شعرية، وحفلات موسيقية، وكل ابطالها من سكان المنطقة، فهناك من يغني ومن يعزف على العود، كان الملتقى فرصة لأن يعبر الجميع عن موهبته". "لا مكان للسياسة فيما نقوم به" هكذا يقول عبد المحسن ويكمل "فرق كبير بين جداريات الشارع وفن الجرافيتي، الجداريات تهدف لجمع الناس على حب الفن لا لتفريقهم بشعارات ورسائل سياسية". كان لأطفال المنطقة نصيب الأسد في المشاركة، يشرح عبد الوهاب "هناك جهات عدة دعمت المشروع بعدد كبير من أدوات الرسم والألوان، وكانت هذه فرصة لأطفال المنطقة لأن يمتلكوا ريشتهم وألوانهم، وأعطى الفنانين الفرصة كاملة لأطفال القرية للمشاركة والتعبير عن أنفسهم، فقام الأطفال بتلوين الرسوم، واكتشفنا عشرات الأطفال الموهوبين في الرسم والذين قد يكونون فنانين تشكيليين في المستقبل القريب". يحلم سكان البرلس بأن يكون الحدث الفني فرصة لأن تلتفت الجهات الحكومية لتنمية المنطقة، أما الأطفال فحلمهم أن تحوي منطقتهم نوادي وأماكن ترفيه ومراكز ثقافية تجعلهم يعيشون طفولتهم، بينما يحلم الفنان عبد الوهاب عبد المحسن بأن ينتشر الفن والألوان المبهجة في كل المدن المصرية، ليختفي القبح. اقرأ أيضاً مهنة الألف جنيه يومياً: أن تكون "السايس" إمبراطور الشارع أسلوب حياة بائعة الهوى في القاهرة في مطلع القرن العشرين جولة على مقاهي القاهرة... دعكم من المشهور وجربوا هذه الأماكن الشعبية مصطفى فتحي صحافي مصري حاصل على الماجستير في الصحافة الإلكترونية من كلية الاعلام في جامعة القاهرة، والمركز الدولي للصحافيين في واشنطن. يعمل حاليًا مدير تحرير لموقع كايرو 360، ويكتب لصحيفة السفير وشبكة الصحافيين الدوليين كلمات مفتاحية الفن - مصر التعليقات