اتخذ الإنسان عبر تاريخه من المزامير آلات وأدوات ترافقه أغلب أوقاته لتقيه الحيوانات المفترسة وتنتشله من القلق والمخاوف التي كانت تطوق يومه وتثيره, فاهتدى بذلك إلى ما يحيط به من جذوع الأشجار والعظام المجوفة والقواقع متخذاً منها مزامير ينفخ بها معتقداً بأنها تساعده على تجاوز مخاوفه وتوفر له قدراً كافياً من الاطمئنان. وطبقاً للمصادر اكتشف الإنسان خاصية انطلاق صوت عند نفخه لأية قطعة من الغاب الأجوف المفرغ أو في قرون الحيوانات الميتة أو في عظام سيقان الحيوانات، فمن خلال النفخ في ثقب بها مع ترك الطرف الثاني مفتوحاً يصدر صوت معين، ولما تطور بدأ يصنع آلات النفخ بدلاً من أن يجدها في الطبيعة حوله, فصنع المزمار الأول من الخشب ثم اكتشف أن المزمار القصير تخرج منه أصوات أعلى وأكثر حدة من المزمار الطويل. وهذه الألحان كانت من درجة صوتية واحدة, ثم قام بتجميع عدة قصبات مع بعضها ليشكل عدة ألحان متعاقبة متوالية استطاع بها تكوين تراكيب لحنية من درجتين أو ثلاث, فصنع مزامير مختلفة الأطوال ليحصل على نغمات مختلفة، ثم اكتشف أهمية الثقوب في عمود الهواء داخل القصيبات إذا تغير طول العمود الهوائي المستخدم عن طريق فتح أو غلق أحد هذه الثقوب فحصل بذلك على درجات صوتية مغايرة, وذلك لأن الصوت الخارج من الثقب يكون أعلى وأكثر حدة من الصوت الخارج من الطرف الآخر للمزمار, ومن هنا يكون كل ثقب بمثابة مزمار جديد, وبذلك أمكنه استخدام آلة نفخ واحدة لإحداث عدة نغمات, فظهرت ألحان حقيقية, وتنوعت بعدها هذه الآلات, فكان منها الصفارات والقرون والأبواق والنايات لتحدث درجة صوتية واحدة أو أكثر باستخدام ما بها من ثقوب, ثم أمكن الحصول على درجات صوتية متباينة من آلة واحدة بتغيير قوة النفخ في العمود الهوائي مما أعطى الألحان والأصوات حيوية أكبر وثراء في العزف وتنويعاته (د.سمير يحيي الجمال– تاريخ الموسيقي المصرية أصولها وتطورها– الهيئة المصرية العامة– 2006 م– ص30). ولقد حظيت هذه المزامير بمكانة كبيرة عند الكثير من الفلاسفة فاهتم بها فيثاغورث وأصبحت في جمهورية أفلاطون أحد الأركان الأساسية لتربية النشء, ووجد فيها أرسطو قدرة عالية على إثارة العواطف والانفعالات. الأصول الحضارية الأصل في تسمية المزمار أو الصرناي sournay zamr kabier مشتق من الكلمة الفارسية (سرناي) بمعنى المزمار الذي مخرجه على هيئة بوق. وهو بالتركية: (زورنا zourna) أي مزمار الفرق العسكرية. وقد يحرفون التسمية إلى: (جوري) وكلمة (زورنا) فارسية الأصل من سورناي حيث (سور) تعني ولائم أو أفراح و(ناي) تعني الفلاوت لتصبح الكلمة ناي الولائم, وفي مصر والشام يسمى المزمار البلدي أو الزمر الكبير, وقد يسمونه في مصر (المزمار التركي), ونسبته إلى التركية أن رجال موسيقى الجيش في العهد العثماني كانوا يستخدمونه في مصر وكان الحكام والولاة يطربون لسماعه. وهو أنبوب من خشب الورد أو الجوز يهيأ بأن ينتهي بجزء أسطواني مستعرض كالبوق بقصد تكبير الصوت ويبلغ طوله نحو 24 بوصة وبه سبعة ثقوب أو ثمانية تسمى: المعاطف أي التي تنعطف إليها الأصابع بالتبديل, وأقرب معطف إلى فم الزامر أحدها نغمة وفيه أيضاً عدة معاطف إضافية من أسفل ومن الجانب الأيمن, ولسانه المزماري ذو قشة رفيعة هي من مسببات حدة الصوت فيه, وهذه الآلة (الصرناي) أشهر أصناف المزامير فصوتها حاد مطرب بعيد المذهب وتؤدي أكثر الألحان صعوبة عند المهرة من العازفين لها, وتستعمل في فرق الجيش وفي مناسبات السفر إلى الحج وفي الأفراح عند أهل البادية, فهي تضفي على السامع ضرباً من النشوة والإحساس بالطرب. وقد وصفها الفارابي (ت 339هـ) في كتابة (الموسيقى الكبير) بأنها ذات ثمانية ثقوب على استقامة ثم ثقب أسفل ما بين الأول والثاني مما يلي فم المزمار وثقبان جانبيان عند مخلصة أحدهما إلى اليمين للزامر والآخر عن يساره. ولقد عرفت آلة الصرناي في سائر الممالك القديمة قبل الميلاد بأسماء مختلفة منها المزمار والمزمار المزدوج والأولوس, ثم عرفها العرب في العصور الوسطى باسم المزمار والسرنا والسرناي والدوناي وهي نفس الآلة المعروفة في مصر الآن باسم المزمار البلدي, ويعرفه أهل الفن باسم (الجوري) للمزمار الكبير و(السبس) للمزمار الصغير, ويطلق عليه في بعض البلاد العربية اسم (زرنا) كتحريف للاسم القديم (سرنا). وهي تعرف بالزمر في عمان والإمارات و(الغيطة) في ليبيا و(الزرونة) في تركيا, و(المجوز) في الأردن وهو المزمار المزدوج المصري الشبيه بالستاوية المصرية, و(الزكرة) في تونس أو (الزرنة) أو (السورنا) وهي مأخوذة من اللفظ التركي (صرناي). ثم عرفها العرب في العصور الوسطى وهم أول من أطلق عليها اسمها الحالي ثم انتقلت إلى مناطق كثيرة من أفريقيا وآسيا, وقد انتشر استعمالها في العصور الإسلامية المختلفة حتى وصلت فرنسا خاصة, حيث كانت أدخلت في فرق الأوبرا وسميت باسم (الأبوا) وظلت تحتفظ بهذا الاسم حتى الآن (د.إيمان جودت– آلات النفخ الشعبية– الهيئة المصرية العامة– ص 110). إلا أنه يعتقد أن المزمار المصري أو الزمر يختلف عن السرناي إذ أن إحدى رسائل إخوان الصفا (رسالة في علم الموسيقى) قد ذكرت أن (فنون الأصوات الآلات في المتخذ للتصويت كالطبول والبقوات والديادب والدفوف والربابي والسرناي والمزامير والعيدان وما شاكلها), ورسالتهم هذه قد ألفوها في القرن 11م بالبصرة في العراق. لكن وقبل ذلك بعدة قرون في عصر الدولة المصرية القديمة (3200ق.م– 2100 ق.م) كان المزمار نوعين: الفردي الطويل والقصير يقول (فلوتو) في المجلد الثامن من كتاب (وصف مصر) إن المصريين كانوا يطلقون على المزمار الطويل اسم دجونواي Djonoues ومنه النوع المرسوم على جدران جبانات الجيزة كما أطلقوا على القصير اسم جنجلاروس Genglaros ومنه النوع الذي ظهر في رسوم كهوف بني حسن. أما النوع الثاني فكان مزمار الأرغول المزدوج وفي الدولة الحديثة (1555ق م– 712 ق.م) زادت ثقوب الأنابيب فأصبحت سبعة تصدر أنغام السلم السباعي الحالي بعد أن كانت الموسيقي في إطار منظومة السلم الخماسي البنتاتوني القديم pentatonic كما حل استخدام المزمار المزدوج الحاد محل استخدام بوصة الناي الهادئ. وفي العصر البطلمي أو الإغريقي (332ق.م– 30 ق.م) أطلقت المسميات اليونانية على أنواع المزمار فصار المنفرد مودواولوس modoalos والمزدوج دياولوس Diaolos. الشعر والآلة ثمة مقاربة بين الشعر والآلة, فالشعر الموسيقي والآلة الموسيقية معزوفتان ضروريتان لهذا العالم وهما معاً من سحر الوجود الإنساني في الكون الرحب. ولو تحدثنا عن الشعر ووصفه للآلات الموسيقية في العصر الجاهلي نجد أن الشعر سمى أكثر من عشرين آلة, وأكثر من شاعر أبرزوا الصورة الإبداعية الراقية لهذا العصر والتي كان عليها من الغناء وآلته, فكان الشاعر الأعشى البكري صناجة العرب وأحد أصحاب المعلقات في مقدمة هؤلاء الشعراء, فذكر آلات القصاب والمستق والناي في أبيات جميلة منها: وشاهدنا الورد والياسمين والمسمعات بقصابها ومستق سنين وون وبربط يجاوبه صنج إذا ما ترنما والناي ترم وبربط ذو بحة والصنج يبكي شجوة إن يوضعا كذلك شبه مزود الذبياني صهيل حصانه بمزامير الندامى: أجش صريحي فكان صهيله مزامير شرب جاوبتها جلاجل وشبهت الخنساء صوت الناقة بمزامير في قصبة مثقبة: ترن بروضات الفلاة كأنما ترجع في أنبوبة غاب مثقب أما حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم فقد هجا قوماً من بني عبدالمدارة وحط من قدرهم بالرغم من طولهم وضخامتهم وجعلهم جبناء ضعفاء كالقصب المجوف الذي نفخت فيه الأعاصير: لا بأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير كأنهم قصب مجوف مكاسره مثقب نفخت فيه الأعاصير هكذا صور لنا الشعر العربي القديم الآلات الموسيقية المعاصرة وبرع كثيراً في تصوير آلات النفخ بصورة خاصة فذكرتها القصائد تارة بتسميتها المباشرة وتارة أخرى بتوظيف تسميتها في التشبيهات والمقارنات والصور الشعرية البيانية والخيالية. وكان لآلة المزمار حضور قوي في الموسيقي الأندلسية المغربية, فهذا الحميدي يصف موكب عرس بقرطبة يتوسطه (النكوري) الزامر, وقد سايره في زمره مغنٍ يغني أبياتاً من شعر أحمد بن كليب النحوي الشاعر, جرت على الألسنة, وكانت مجالس الأنس تضم النافخين في المزامير، يذكر ليفي بروفسنال أن هذه المجالس تحولت فيما بعد إلى مشاهد عامة أصبحت تعرف باسم زامبرة zambra وهي عبارة مشتقة من الزمرة وتدل المصادر على العناية بوصف آلات الزمر وطرائق صنعها وعزفها, كما نقلت إلينا مجموعة من النصوص الشعرية التي تشيد بذكرها وبدورها بجانب باقي الآلات. يقول ابن حمديس الصقلي في وصف مجلس أنس: وقد سكنت حركات الأسى قيان تحرك أوتارها فهذه تعانق لي عودها وتلك تقبل مزمارها ويقول الوزير أبو بكر بن سعيد من أبيات يسترضي بها الشاعر الهجاء المخزومي (ت 546هـ) ويستدعيه إلى مجلس طرب: صل ثم واصل حفيا بكل برد وشكر وليس إلا حديث كما زها عقد در وشادن يتغنى على رباب وزمر لكن انحسر استخدام المزمار خارج مجال أجواق الموسيقى الأندلسية التقليدية, ولنا في النصوص الشعرية للنوبات ما يؤكد هذه الحقيقة فإنها تخلو من أي اشارة إلى استعمال الزمر وآلته, على حين يتردد كثيراً ذكر العود والطار, ولعل مما يبرز غياب المزامير هذه الأجواق أنها لا تنسجم –في رأي ممارسي موسيقى الآلة– مع الأجواء الفنية مثلما تنسجم الوتريات, وأنها بحكم طبيعة استخدامها الأحادي تعتبر أقل ائتلافاً مع طبيعة العزف الجماعي الذي يطبع الممارسة التقليدية, وقد حدا هذا ببروفسنال إلى الاعتقاد بأن مشاهد الزمر الراقصة التي التزم بها الأندلسيون في العصر الإسلامي شكلت إرثاً تقليدياً من عهود الأندلسي القديمة أكثر مما شكلت مشاهد لحفلات موسيقية من نحو حفلات زرياب (عبد العزيز عبد الجليل– الموسيقي الأندلسية المغربية– المجلس الوطني للثقافة– سلسلة عالم المعرفة– العدد 129– سبتمبر 1988 الكويت– ص 255) تكنيك العزف يدخل الصرناي ضمن باقي آلات فن الليوة الخليجي الوافد من أصول أفريقية للبحرين, كما توجد عائلة ألاد مناحي التي توارثت العزف عليه ويسمى عازف الصرناي الأساسي إذ بدون صوتها الصداح الهازج لا يمكن أن يكون أثر انتشاء لا للراقصين ولا لجمهور الحاضرين, ويؤدى فن الليوة في الميادين العامة المفتوحة نظراً للصوت القوي الذي تصدره آلة الصرناي. ويعتبر الفنان الشعبي البحريني سامي حرز أحمد المالود من أشهر العازفين العرب, ولقد أدخلت بعض الإضافات على تكوين آلة الصرناي الموجودة حالياً في عمان والبحرين وقطر والإمارات والكويت والتي صنعت ثقوبها بناء على سلم سباعي تتخلله ثلاثة أرباع النغمة في حين أنه من الأرجح أن تكون الآلات الأفريقية مبنية على نغمات السلم الخماسي, ويمكن أن يكون السبب وراء ذلك التحوير أن صانع الصرناي في الخليج وغالباً ما يكون هو العازف على الآلة يقوم بوضع الثقوب بنفسه على جسم الآلة حسب ما يراه مناسباً للأغاني التقليدية المتداولة في الخليج والتي يمكن أداؤها في رقصات الليوة وغنائياتها. غير أن الشائع لآلات الصرناي هو ذاك الذي يكتفي فيه الصناع والعازفون بفتح ثقوب ستة لا غير, ويمسك العازف الآلة بين أصابع يديه ويسد بأصابع اليد اليسرى ثلاثة ثقوب من أعلى الثقوب الستة الرئيسة وبأصابع اليد اليمنى يسد الثقوب الثلاثة المتبقية أسفل الدقل ويدخل العازف الخوصة (الريشة) في فمه إلى أن تلتصق مقدمتا شفتيه بالقرص الدائري (الفطية) وتكون شفتا الريشة في وضع رئيسي في فم العازف ويصدر الصوت ممتداً بطريقة تقليب النفس, ويأتي النظام السلمي للآلة في تكوين مقام الراست أما مساحتها الصوتية فتصدر واضحة الدرجات في الأوكتاف الأول ويمكن للعازف الماهر أن يتجاوزها في الاتجاه الحاد ويصدر ديواناً آخر أو عدد درجات أقل وذلك حسب مهارته, يصاحب الآلة الطبول والإيقاعات مع التصفيق وأحيانا تعزف مع مجموعة صرناي بمصاحبة الغناء. ومن الآلات التي لها مكانة في المجتمع الكويتي لما لها من ارتباط بالمناسبات الاجتماعية لدى عامة الناس وارتباطها بالإنشاد الديني, ويقتصر استخدامها عند جماعة المحترفين وينفرد بالعزف على هذه الآلة الرجال دون النساء لأن العزف يحتاج إلى قدرة خاصة من حيث قوة النفخ المستمر. وعلى الرغم من انتشار آلة المزمار في كثير من أنحاء مصر حيث تتواجد على امتداد أقاليم وادي النيل من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله فإن للآلة وضعاً ثقافياً خاصاً من حيث التداول والانتشار, وقلما نجدها لدى عامة الناس وليس المحترفين, ثم بدأ انتشارها لدى العازفين المحترمين حيث أنها آلة تحتاج إلى مهارات خاصة, وفى الآونة الأخيرة وجدت الآلة عند بعض الأفراد من خارج هذه الفئة بل بدأ يعزف عليها شباب من خريجي المعاهد الموسيقية ولكن هذا التواجد ظل محدوداً وظل بعيداً عن الإطار الثقافي الواقعي وهو الإطار الشعبي للآلة الموسيقية.