ولد "ديفيد وارن" في 20 مارس 1925 في جزيرة "غروت" المقابلة لساحل الإقليم الشمالي من أستراليا، كان الطفل الأول من أصل أوروبي يولد في هذه الجزيرة المعزولة بسكانها الأصليين منذ آلاف السنين، عاش في كنف عائلته الصغيرة حتى بلغ سن التعليم النظامي فألحقه والده بمدرسة "ونسيستون" التي تعد من أعرق المدارس الأسترالية في ذلك الحين وحتى الآن، اهتمام والده به وعنايته لم يستمرا طويلاً، فما أن بلغ "ديفيد" 9 سنوات من عمره حتى أضحى يتيماً إثر وفاة والده في حادث تحطم طائرة بمضيق "باس" في ولاية فكتوريا الأسترالية، أفقدته تلك الطائرة والده ويتمته وجعلته يمضي ما تبقى من عمره يتساءل ما الذي حدث للطائرة التي كانت تقل والده؟ ما أسباب سقوطها وتحطمها؟ لماذا لم يستطع قائد الطائرة أن يهبط بأمان؟ وبقيت أسئلته معلقة وحائرة تسكن روحه وعقله وتشاركه أيامه ولحظات الضعف التي يحن فيها إلى والده ويتمنى لو أن يكون بوسعه أن يرتمي في حضنه ويعاتبه على طول الغياب. بعد أن أنهى "ديفيد وارن" المرحلة الثانوية من تعليمه التحق بجامعة سيدني حتى تخرج فيها بشهادة البكالوريوس في العلوم، وعمل بعد تخرجه معلماً للكيمياء والرياضيات في كلية "جيلونج نحوي" في فكتوريا ومن ثم انتقل لجامعة سيدني ليحاضر في الكيمياء، ورغم كل تلك السنين التي مضت بعد تحطم الطائرة التي كانت تقل والده وحتى أصبح محاضراً مغموراً في جامعة "سيدني" إلا أن أسئلة الطفولة التي نثرها في كل مكان بحثاً عن إجابة تشفي رغبته في معرفة السبب الذي أدى إلى سقوط الطائرة التي مات والده إثر تحطمها، ما زالت دون جواب. بحثه عن الإجابة دفعه للمشاركة في التحقيق عن أسباب سقوط أول طائرة ركاب مدنية في العالم والتي سقطت عام 1953 بعد ست دقائق من إقلاعها من مطار "كالوكتا" في الهند، مما تسبب في مقتل جميع من كان على متنها وعددهم 43 وأدى إلى تهديد مستقبل الطيران المدني لتدني مستوى الأمان وعدم استطاعة المحققين في الحادث التوصل إلى الأسباب التفصيلية التي تسببت في تحطمها لتلافيها مستقبلاً، والعمل على عدم تكرارها، وذلك نظراً للغموض الكبير الذي يخلفه مثل هذه الحوادث. نتج عن مشاركة "ديفيد" في التحقيق رغبة ملحة لمعرفة ما هي الكلمات التي قالها كابتن الطائرة من قمرة القيادة، وما هي المعلومات والبيانات الرقمية "السرعة، الوقت، الاتجاه" التي كانت عليها الطائرة قبل تحطمها وذلك لأهميتها في التوصل إلى مسببات الحادث وكشف غموض تحطم الطائرات، والأهم من ذلك كله إجابة تساؤلات طالما أشغلت روحه صغيراً وكبيراً. رغبته تلك أوصلته إلى فكرة صندوق قوي وصلب وضد الحريق يسجل كافة المعلومات التي تساعد على كشف غموض تحطم الطائرات، ومن ثم شرع في العمل على الفكرة وتوصل إلى مسجل بيانات يستطيع العمل لمدة أربع ساعات وعرضه على سلطات الطيران الأسترالي التي رفضته لاعتقادها بأنه عديم الفائدة في مجال الطيران المدني وسخر منه الطيارون ولقبوا اختراعه بـ"الأخ الكبير" الذي يتجسس على أحاديثهم. ولأن بريطانيا كانت تضطلع بدور كبير ومهم في مجال صناعة الطيران المدني حينذاك فإنها اهتمت بفكرته ورحبت بحماس أن تقوم بدعمه لتطوير الاختراع بعد أن عرضت إذاعة الـ"بي بي سي" تقريراً حول الاختراع وتنافست بعدها الشركات لتطويره وصناعته لإيمانهم بدوره الكبير في رفع مستوى الأمان الذي بات كابوساً يقض مضجع عالم الطيران المدني. بعد تطوير الاختراع تم إلزام كافة طائرات العالم بوضع صندوقين وليس صندوقاً واحداً، يقعان في مؤخرة الطائرة ويسجلان ما يحدث للطائرة طيلة فترة سفرها، يقوم الصندوق الأسود الأول بحفظ القيم الفيزيائية والبيانات الرقمية مثل "الوقت، السرعة، الاتجاه"، ويقوم الصندوق الثاني بتسجيل الأصوات، مما أدى إلى رفع مستوى الأمان في مجال الطيران المدني حتى أصبح الطيران الوسيلة الأكثر أماناً بين كافة وسائل المواصلات في العالم، رغم ما يكتنف مجال الطيران من ارتفاع بمنسوب المخاطر. قتلت الطائرات والد "ديفيد" فمنحها الأمان، يتمته وحرمته من والده فزرع في جسدها اختراعه الذي جعل أطفال العالم أكثر قرباً من آبائهم، مهما بعدت بينهم المسافات. استطاع "ديفيد" أن يعانق والده في كل مرة يلتقي فيها أب بأطفاله بعد رحلة طيران آمنة، بفضل الله، ثم اختراعه "الصندوق الأسود". الفجيعة بفقد من نحب نستطيع أن نهزمها على طريقة "ديفيد"، والحنين الذي يملؤنا لمن رحلوا عنا بوسعه أن يجعلنا نفعل أشياء عظيمة من أجلهم مثلما فعل "ديفيد" من أجل والده. نستطيع أن نكون أكثر قرباً ممن فقدناهم بشتى الطرق، بكتاب يزرع الأمل في قلب مريض، بتعليم طفل على طريقة عبور الطريق، أو بهدية صغيرة تشعل السعادة في قلب شيخ كبير. إن من فقدناهم بجوارنا تماماً.. نستطيع أن نعانقهم كلما فعلنا شيئاً من أجلهم.