لم يتغير أنتون كثيرا، كل ما هنالك أنه أصبح شاحبا ومتعبا وكثيف الشعرهكذا صار يرى نفسه، ربما بسبب تأثير مرض فصام الشخصية الذي يصور الحياة لصاحبه أحيانا وكأنها نزهة منزوعة المخاطر. العربنهى الصراف [نُشرفي2017/02/18، العدد: 10547، ص(21)] هل يمكن أن يستعيد الصراع من أجل البقاء في أيامنا هذه، شكله التقليدي القديم؟ قصة نجاة الشاب الكندي الذي وُجد أخيرا في البرازيل، بعد مرور خمسة أعوام على اختفائه من منزله في فانكوفر، مازالت تثير حيرة البعض ومنهم المستكشف البريطاني ليفسون وود، الذي شكك في إمكانية البقاء على قيد الحياة في ظل الظروف التي عاشها الكندي أنتون فيليبا، وتنقله على امتداد عشر دول ابتداء من كندا حيث منزله ووصولا إلى البرازيل حيث وجدوه، ومن دون أوراق ثبوتية أو جواز سفر! كان البريطاني وود قد عاد مؤخرا من رحلة استكشافية في أميركا الوسطى، بصحبة دليل أعانه كثيرا على تجاوز العقبات والمخاطر التي كان سيواجهها أعزل. وفي رأيه، أن الرحلة عبر كندا أو الولايات المتحدة الأميركية يمكن أن تكون معقولة إلى حد ما، “لكن أميركا الوسطى لا يمكن أن يقطعها أي رحالة أعزل من دون دليل واع”. أما المخاطر التي يعنيها فهي بالتأكيد العصابات، الغابات الممتدة على مساحات هائلة بتفاصيلها المموهة، إضافة إلى الكائنات القاتلة كالحيوانات المفترسة والعناكب السامة، وفوق كل هذا، فإن الكندي كان أشقر وهذه الصفة الظاهرية كفيلة بمضاعفة المخاطر، إذ كان من السهولة جدا تمييزه كغريب عن الخلفية العامة أو الأجواء المحيطة بالمناطق والدول التي قطعها راجلا. وعلى عكس المتوقع، فإن شعر أنتون الأشقر وعينيه الزرقاوين، كانا طرف الخيط الذي استدل منه السكان المحليون على بقية قصة ضياعه وتيهه على مدى السنوات الماضية، حيث تمكن الناس من التعرف إليه وكان متوجها في طريقه إلى إحدى الولايات في شمال البرازيل، تشتهر بكونها وكرا للحيوانات المفترسة الضخمة مثل التماسيح وقطط الأدغال. شكل خبر نجاة الشاب الكندي صدمة لأفراد أسرته الذين كانوا فقدوا الأمل في العثور عليه حيا، كما زادت دهشتهم عندما اطلعوا على مسار الطريق الشائك الذي سلكه ثم بقائه على قيد الحياة، خاصة أن الشاب كان ومازال يعاني من الشيزوفرينا ويعتمد بشكل ما على تناول أدوية، من المرجح أنه انقطع عن تناولها منذ اليوم الأول لمغادرته منزله. قطع أنتون حدود عشر دول، وكانت مصادره للبقاء على قيد الحياة قطف ما يتوفر من فواكه، البحث عن بقايا طعام وملابس ممزقة في براميل النفايات والاعتماد على ما يجود به الغرباء، فيما تعرض لسرقة مقتنياته مرات عدة، ثم قطع 800 كم على قدميه عبر غابات الأمازون الخطيرة حتى فقد أظافر قدميه تماما. وعلى الرغم من أنه كان التقى (بعض) الأشخاص السيئين في بداية رحلته التي امتدت على مسافة 10 آلاف ميل، لكن تسنى له مع اقتراب نهايتها الحصول على معاملة طيبة وكرم منقطع النظير. ولهذا صار يخبر الجميع بعد نجاته “كان عليّ النوم في العراء لسنوات طويلة، وقطع مسافات من دون اتجاه أو هدف، إلا أنني لم أشعر بالوحدة قط. الأمر بغاية البساطة، حتى تواصل العيش، فأنت لست بحاجة إلى أشياء كثيرة”. لم يتغير أنتون كثيرا، كل ما هنالك أنه أصبح شاحبا ومتعبا وكثيف الشعر. هكذا صار يرى نفسه، ربما بسبب تأثير مرض فصام الشخصية الذي يصور الحياة لصاحبه أحيانا وكأنها نزهة منزوعة المخاطر، يعود بعدها إلى المنزل متعبا ومعكر الثياب وينتظره حمام دافئ لينزع عنه غبار الطريق، ليس إلا. لكن هذا لم يحدث، فبعد عودة الشاب إلى وطنه ألقي القبض عليه بتهمة قديمة لارتكابه جريمة اعتداء باستخدام السلاح، كان قد تهرب منها قبيل رحلته العجيبة وها هو رغم ما مرّ به من مصاعب، سيضطر إلى الدفاع عن نفسه في جلسة المحكمة المقبلة، طبعا بعد أن يستعيد على الأقل أظافر قدميه! كاتبة عراقية مقيمة في لندن نهى الصراف