النسخة: الورقية - دولي ولد زيد لأسرة متوسطة الحال في إحدى كبريات المدن السعودية، وحرصت أسرته على دراسته وتعليمه، وكان طالباً متفوقاً في مراحل الدراسة المتوسطة والثانوية. أحب المواد العلمية وظفر بأعلى الدرجات فيها، وكان يقول لكل أفراد أسرته إنه سيدرس الطب ويكون فخراً لذويه الذين لم يتخرج منهم فرد واحد من جامعة. وعندما انتهى من الدراسة الثانوية قدم إلى إحدى كليات الطب التي فضلها وتم قبوله ليبدأ الدراسة في مستهل السنة الدراسية من العام المقبل. وفي ليلة من الليالي المعتادة زاره أربعة من زملائه وعرضوا عليه وبإصرار الخروج معهم لتناول طعام العشاء في مطعم من المطاعم التي يفضلها أكثرية زملائهم. وبعد أن استمتعوا بوقتهم في المطعم ورأوا فعلاً الكثيرين من زملائهم وتبادلوا معهم الابتسامات والتعليقات خرجوا للعودة إلى بيوتهم، وفي الطريق وفي أحد التقاطعات انتظروا عند إشارة مرورية، وعندما أذن لهم الضوء الأخضر بالعبور وبينما كانوا في وسط التقاطع أتت سيارة «سيبربان» بسرعة هائلة وارتطمت بالسيارة التي كان فيها زيد وزملاؤه. مات زيد وثلاثة من زملائه ولم ينج إلا سائق السيارة الذي أصيب بإصابات خطرة كان أخطرها الشلل الذي حرمه إلى الأبد من الجري وراء كرة القدم التي كان يمارس لعبها بانتظام. وأثبتت التحقيقات في ما بعد أن سائق «السيبربان» أو «الجمس» كما يسميه السعوديون لا مخمور ولا مجنون ولا يتعاطى المخدرات، بل مجرد مستهتر بحياته وحياة الآخرين لا أقل ولا أكثر. إن كل ما تقدم أو ما يشبهه أو يختلف عنه بالتفاصيل هو ما يحدث يومياً في شوارع مدننا الواسعة وفي طرقنا السريعة التي تربط جميع أنحاء المملكة ببعضها البعض. وباستثناء العجلات المقلدة أو التي أصابها العطب، فالسيارات التي تفي بالمواصفات ويتم فحصها دورياً نادراً ما تكون سبب الحوادث. إن السبب الأهم هو الاستهتار وفي أحيان قليلة الجهل بخطر السيارات. وبالنسبة إلى طلاب علم الاقتصاد فالأهم لتفسير التصرفات البشرية هي الدوافع الذاتية والأثمان التي يدفعها الناس. وارتفاع الأثمان أو انخفاضها هو الذي يقرر النادر والكثير أياً كانت الدوافع وأياً كانت أهمية أو عدم أهمية ما يراد حوزته، أو في حال أنظمة المرور المخالفات المرتكبة، سواء كان المخالف مستهتراً أم جاهلاً. أي لكل شيء ثمن، وثمن أو سعر المخالفات المرورية، وكما تثبت كثرة ارتكابها لا بد أنه متدنٍ أو على الأقل لم يصل إلى المستوى العالي بما يكفي لمنع حدوثها. وهذا لا ينفي الحاجة، بل الضرورة إلى تشجيع كل وسيلة تحث على الالتزام بالأنظمة المرورية المعروفة والمجربة في كل مكان كحملة «يعطيك خيرها». وقد كان حديث سمو الأمير سلطان بن سلمان في التلفزيون عن أخطار السيارات حديثاً موفقاً مؤثراً، فهذه الحملة إن لم تجعل المستهتر أقل استهتاراً فقد تنفع كثيراً في توعية الجاهل بأخطار السيارات. وسعر ارتكاب المخالفات، أو سعر الاستهتار أو ثمن تعليم الجاهل قد يكون قليلاً فيؤدي إلى ارتكاب المزيد من المخالفات، وقد يكون عالياً فيؤدي إلى ارتكاب القليل من المخالفات. إن المستهترين ذاتهم الذين نراهم يومياً في شوارع مدننا وطرقاتنا إذا كانوا في خارج حدودنا نراهم ملتزمين ومنضبطين لا يرتكبون مخالفة متعمدة واحدة بما في ذلك ربط الأحزمة. وفي بداية استحداث «ساهر» نقص عدد الحوادث وقل عدد المستهترين في الشوارع والطرق التي كانت فيها كاميرات «ساهر». وعلى رغم أهمية نظام «ساهر» فإنه يحتاج إلى تحديث وتوسع وبوسائل لا تدل على وجوده. فالكاميرات الثابتة سواء كانت في داخل سيارة أو في موقع خارجها فقدت الكثير من قيمة ردعها. ونرى يومياً سائقين يبعثون إشارات إلى غيرهم من سالكي الطريق ليحذروهم من وجود كاميرات قريبة. وعلى رغم الشكوى المتكررة من نظام كاميرات «ساهر»، فهو الوسيلة الوحيدة لرفع سعر الاستهتار وتجاهل أنظمة السلامة البديهية إذا تم تحديثه وارتفعت كفاءته واتسع مئات المرات، وإذا تم ذلك من دون أن يعرف المستهترون ما يدل على وجوده. وقد قيل سابقاً إن «ساهر» لا يطبق على الجميع. وهذا قول غير صحيح فسواء كان صاحب السيارة التي ضبطت كاميرات «ساهر» مخالفاتها غالية أم رخيصة، وسواء كانت مسجلة باسم زيد أم عمرو أياً كانت مكانة صاحبها الاجتماعية أو الرسمية، فإن النظام الآلي يمنع تجديد رخصة سيرها قبل دفع المخالفات التي صورتها كاميرات «ساهر». وموجز القول إن القضية قضية «أسعار» بمعنى كلمة أسعار في علم الاقتصاد. والسعر الذي يدفعه المستهترون مخالفو الأنظمة المرورية المعمول بها محلياً وفي دول مجاورة وغير مجاورة قد يجدون أن السعر الحقيقي المؤكد متدنٍ فيرتكبون المزيد. وقد يجدون السعر عالياً بحيث يكفي لجعل ارتكاب المخالفات نادراً بحيث لا يحدث إلا من دون قصد. * أكاديمي سعودي