×
محافظة المنطقة الشرقية

الاتحاد «كبير آسيا»

صورة الخبر

النسخة: الورقية - سعودي بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي والتحولات في كل من شرق أوروبا وجنوبها إلى مجموعة من الدول الهجينة (أي دول تحتوي على بعض عناصر النظام الديموقراطي والنظام السلطوي). بعد ذلك بعقد، وابتداء من عام ١٩٩٨ بدأت تتشكل ظاهرة جديدة في تلك المناطق: الأنظمة السلطوية بدأت تتهاوى وبدأ السعي حثيثاً نحو استكمال عملية «الدمقرطة». ففي عام ١٩٩٨ استطاع ميكولاس دزوريندا تشكيل حكومة في سلوفاكيا، منهياً عهد الزعيم السلطوي ڤلاديمير ميجيار. بعد ذلك بعامين، استطاعت أوكرانيا التخلص من الحزب الذي سيطر على البلاد عشرة أعوام. الأمر نفسه حدث في صربيا عام ٢٠٠٠، وفي جورجيا بعد ذلك بثلاثة أعوام، وفي أوكرانيا بعد هذه الأخيرة بعام... . سُميت هذه التحولات، التي كانت سلمية غالباً - مستغلة الوسائل والأدوات الموجودة في الفضاء الذي تتيحه المؤسسات الديموقراطية الشكلية الموجودة آنذاك - بالثورات الملونة. فهذه الثورات تختلف في شكل كبير عن الثورات التقليدية، فهي من جهة لا تقطع مع النظام القديم بقدر ما تحدث ضمن شكله الخارجي. كما أنها عند انتصارها تعبّر عن نفسها كامتداد للنظام السابق ولا تطرح نفسها كقطيعة كلية معه. كما أنها - وهو المهم - ثورة تؤدي إلى تدعيم الديموقراطية، وليست كالثورات العالمية الكبرى- الفرنسية، أو البلشفية- التي انتهت بأنظمة سلطوية وقمعية. فما السر وراء هذه التغيرات في تلك المنطقة؟ أثناء تشكُّل هذه الظاهرة كان المراقبون والمحليون مبهورين بتتابع الأحداث وأدوار الفاعلين، فكانت مقارباتهم للظاهرة مشبعة بتأكيد دور الفاعلين السياسيين، والتدقيق بالتقنيات والاستراتيجيات التي اعتُمدِت من المعارضة، وكيف استطاعت حشد الناس وجمعهم...؟ وعلى رغم مراعاة هؤلاء المحللين للنظم الاقتصادية والإقليمية والدولية، إلا أن مقاربتهم كانت في شكل جلي متمحورة على الدور الذي لعبته المعارضة في إنجاح هذه الثورات، أي أنها تقريباً دراسات حول المعارضة. بعد ذلك بفترة، وبعد أن هدأت الأحداث رجع الباحثون خطوتين إلى الوراء لتأمُّل ما جرى، فلاحظوا ظاهرة وهي أن هذه الهزائم التي تعرضت لها الأنظمة السلطوية جاءت متتابعةً، فسعوا إلى تفسير هذا التتابع. فبعضهم صوّر الأمر وكأنه «تفشٍّ للديموقراطية»، وأن تحول دولة ما إلى الديموقراطية يدفع ما حولها إلى مجاراتها واتباع مسارها. إلا أن هذا التفسير يعاني من مشكلات، لعل أهمها افتراضية أن التتابع يقتضي المحاكاة. فكما بيّن جوكان لي «أن تتابع السيارات على محطة البنزين لا يقتضي أن كل سيارة تحاكي الأخرى، بقدر ما قد يكون أن كل هذه السيارات تشترك في حاجتها إلى البنزين». من هذه الملاحظة الأخيرة طور جوكان لي ورفيقه ستيفن ليفيتسكي نظرية تفسيرية لهذه الظاهرة، بعيداً عن الاقتصار على التقنيات والاستراتيجيات التي اتبعتها المعارضة، وبعيداً عن التعامل مع التتابع بأنه محاكاة. فنظريتهما تعيد التأكيد على دور البنية الدولية والإقليمية في تفسير هذه الظاهرة. فهما يهتمان ببُعدين بنيويين رئيسين، الأول: حجم الارتباط بالغرب. الآخر: مدى مأسسة وتركز وقدرة النظام السلطوي على القمع. بالنسبة إلى البُعد الأول فحجم الارتباط بالغرب، سواء أكان الأمر محاولة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أم تدخل حلف الناتو العسكري، أو حجم التبادل الاقتصادي والثقافي والاجتماعي مع أوروبا الغربية أو أميركا، أو حجم وجود الدعم الأميركي لمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني. كلما زاد هذا الارتباط كانت قدرة النظام السلطوي على المناورة، لحماية نفسه أقلّ وأصعب، أي قدرة أكثر وأسهل للمعارضة من أجل التحرك والتعبئة. أما بالنسبة إلى البُعد الثاني فهو حجم ومدى مأسسة النظام السلطوي. والقاعدة هنا، كلما كان النظام مؤسساً وراسخاً كانت قدرته على القمع أعلى، ومن ثم إمكان التحول الديموقراطي أقل، فإن كانت النخبة المهيمنة منتظمة داخل حزب مسيطر فإن الحزب المؤسس في شكل قوي ومتين يساعد النخبة الحاكمة على استيعاب خلافاتهم ويمنع من حدوث انشقاقات وتشظٍّ. معيار آخر لقياس مدى مأسسة هذه الأنظمة، هو حجم الإنفاق على الجهاز القمعي وتطويره وتأهيله، ليكون قادراً على قمع أي تعبئة ومظاهرات محاججة للنظام. إضافة إلى العاملَين السابقَين، يمكن إضافة عامل آخر، وهو مدى سيطرة النظام على الاقتصاد، وحجم المؤسسات الحكومية التي أمَّمها أو استحوذ عليها. في حال لم يكن للنظام أي من هذه الوسائل، فإن ما يعتمد عليه من أجل البقاء هي شبكات الولاء التي يستطيع تثبيتها عبر تمويل مرحلي من السهل تبديده وتفكيكه. ضمن هذا التفسير، تختفي الإرادة للفاعلين السياسيين في التاريخ، ويتم اختزال المشهد السياسي إلى علاقات البنى الداخلية الموجودة فيه. وهو بهذا الشكل يعتبر رداً عملياً على استحواذ الدراسات التي تهيمن على الإرادة وسلوك حركات المعارضة في الفترة الحرجة. إن تطبيق مثل هذه النظرية البنيوية على العالم العربي لأمر يبعث على اليأس: الأنظمة مسيطرة على الاقتصاد، والأنظمة ذات أجهزة قمعية متطورة. كما أن حجم الارتباط بين هذه البلدان وأوروبا وأميركا متدنٍّ، مقارنة ببلدان شرق أوروبا وجنوب أوروبية، ومن ثم ستكون النتيجة: صعوبة التحول الديموقراطي في هذا البلد العربي أو ذاك، إلا أن البُنى - ولئن كانت صلبة وثابتة لم تتغير - فإنه يمكن دوماً مجابهتها، خصوصاً إذا كانت تتبنى مؤسسات انتخابية شكلية يمكن اعتماد أدواتها لتحدي المستبد. إن التأكيد هنا على دور الإرادة الحرة هنا وجوهريتها أمر مهم، لأنها الجذر الذي منه تصبح عملية التنبؤ بالأحداث غير ممكنة، كما أنها الجذر الذي يجعل منها عنصراً فاعلاً ومؤثراً في الأحداث لا محضاً منفعلاً ومتأثراً.     * كاتب سعودي.