سيمرّ وقت، قد يطول قليلا، قبل معرفة ما اذا كانت إدارة دونالد ترامب ستكون قادرة على احداث تغيير كبير نحو الأفضل في الولايات المتحدة. ليس كافيا الاتكال على ان أداء إدارة باراك أوباما كان كارثيا على الصعيد الخارجي كي يكون نجاح الإدارة الجديدة مضمونا. ادّى أداء أوباما الى انتصار دونالد ترامب على هيلاري كلينتون، لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة انّ عهده سيكون افضل من عهد سلفه! يبدو ان إدارة ترامب تعمل على إعادة النظر في تركيبتها. ليس معروفا بعد الى ايّ حدّ ستصل إعادة النظر هذه. لكنّ ذلك لا يمنع، قبل كلّ شيء، الترحيب باستقالة الجنرال مايكل فلين من موقع مستشار الامن القومي لترامب. لم يكن الرجل مؤهّلا لمثل هذا المنصب المهمّ بأيّ شكل. هذا ليس عائدا الى انّه على ارتباط واضح بالإدارة الروسية فحسب، بل انّه عائد ايضا الى موقفه المعلن من الإسلام كدين. انّه موقف يتسّم بالجهل والعنصرية في آن. كان فلين عاجزا عن فهم ما يدور في الشرق الاوسط والعالم بسبب ثقافته المتواضعة اوّلا وعجزه عن ان يكون منفتحا على الآخر المختلف. كان مجرّد متزمّت لا يصلح لايّ موقع في الإدارة الاميركية، اكان هذا الموقع صغيرا او كبيرا. اعطى فلين الدليل تلو الآخر على انّه "داعشي" على طريقته. مثّل التطرّف ولا شيء آخر غير التطرّف بدل السعي الى محاربة الذين يدعي انّه يريد محاربتهم، اي تنظيم إرهابي مثل "داعش". يكفي للتأكّد من مدى خطورة شخص مثل فلين استعادة ما قاله عن ان "الإسلام ليس ديانة حقيقية، بل أيديولوجية سياسية تختبئ خلف ديانة". يريد بكل بساطة شنّ حرب على الإسلام. لا فارق لديه بين مسلم وآخر. بالنسبة اليه كل مسلم متطرّف وارهابي لانّه ينتمي الى ديانة معيّنة. من يخلط بين الإسلام والإرهاب، انّما لا يعرف شيئا لا عن الإسلام ولا عن الحرب على الإرهاب التي يقودها مسلمون بينهم قادة السعودية والمغرب والامارات والاردن. كان فلين، بافكاره التبسيطية، يعيش في عالم آخر. لا يعرف حتّى ما هي الولايات المتحدة. لذلك سمح لنفسه بمقابلة السفير الروسي في واشنطن سرغي كسلياك ليبحث معه في العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على روسيا. اعطى انطباعا بان الإدارة الجديدة مؤيّدة للتخفيف من العقوبات التي فرضت على روسيا بسبب أوكرانيا وتدخلها فيها. بدا واضحا ان الرجل يعمل لفلاديمير بوتين ويشاطره اراءه التي تفرّق بين بشار الأسد وايران من جهة و"داعش" من جهة أخرى. من يفرّق بين النظام السوري وايران من جهة ونشوء "داعش" وانتشارها ان في سوريا او في العراق، انّما يصعب عليه فهم طبيعة الصراع الدائر في الشرق الاوسط والأسباب الحقيقية التي ادّت الى صعود التطرف والإرهاب وانتشارهما. انّه تفكير تبسيطي لا مفرّ لادارة ترامب من الخروج من اسره في حال كانت تريد بالفعل القضاء على ما سماه الرئيس الاميركي، على طريقته، في خطاب القسم "الإسلام المتطرّف". المهمّ ان تستمر عملية التخلص من الشخصيات التي تشبه فلين والتي ما زالت تحيط بترامب. بين هذه الشخصيات ستيف بانون الذي لا يقلّ خطورة عن فلين، وستيفن ميللر وسباستيان وكاترين غوركا، على سبيل المثال وليس الحصر. لا يزال باكرا التفاؤل بحدوث التغيير. ما يشجّع عليه انّ المؤسسة الاميركية لا يمكن ان تقبل في نهاية المطاف وجود هواة في مناصب أساسية. ولذلك، سيكون في موقع مستشار الامن القومي شخص مثل نائب الادميرال روبرت هارورد او الجنرال ديفيد بتريوس او الجنرال كيث كيللوغ. سبق لهارورد ان عمل تحت قيادة الجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع الذي يعرف الشرق الاوسط ظهرا عن قلب. كذلك الامر بالنسبة الى بتريوس الذي يعرف تماما ما هي مصادر الإرهاب في المنطقة وأين يقع محل "داعش" في الاعراب وفي عالم الإرهاب عندما يكون مطلوبا التعاطي بجدّية مع هذه الظاهرة. سيظل السؤال الذي سيطرح نفسه في الأسابيع القليلة المقبلة مرتبطا بالشكل النهائي الذي ستتخذه الإدارة الجديدة. هناك اشخاص عدة فيها يمتلكون مؤهلات استثنائية مثل الجنرال ماتيس ووزير الخارجية ركس هاريسون الذي لديه علاقة قوية بعائلة بوش وبوزير الخارجية السابق جيمس بايكر الذي لعب دورا محوريا في عهد الرئيس جورج بوش الاب الى جانب الجنرال برنت سكوكروفت الذي كان مستشارا للأمن القومي وقتذاك. حال هذا الثلاثي دون الذهاب الى بغداد للانتهاء من نظام صدّام حسين في العام 1991 من منطلق ان الإدارة لم تكن جاهزة سوى للتعاطي مع اخراج الجيش العراقي من الكويت وإعادة البلد الى اهله. كان هناك وعي لضرورة الاعداد الجيّد لمرحلة ما بعد صدّام بدل ترك البلد للميليشيات المذهبية المدعومة من ايران كما حصل بعد سقوط بغداد في نيسان ـ ابريل من العام 2003 عندما اقدم بوش الابن على مغامرة غير محسوبة النتائج كاشفا انّه لا يعرف الكثير عن الشرق الاوسط وتعقيداته. في مرحلة ما بعد باراك أوباما تحتاج الولايات المتحدة الى رجالات دولة وليس الى أصحاب نظريات مضحكة ـ مبكية من نوع تلك التي يؤمن بها فلين وآخرون من المحيطين بدونالد ترامب. لعلّ اول ما تحتاجه اميركا الى رجال يستعينون بتجارب عربية ناجحة قادها رجال شاركوا في الحرب على الإرهاب ونشر الاعتدال مثل الملك محمد الخامس والملك عبدالله الثاني والشيخ محمّد بن زايد وليّ عهد أبوظبي. هؤلاء الزعماء المسلمون اعتبروا منذ سنوات طويلة ان الحرب على الإرهاب هي حربهم اوّلا، وهي حرب على الذين يشوّهون الإسلام من داخل العالم الإسلامي ومن خلال البرامج التعليمية والمتاجرة بالغرائز والاستثمار في توسعة الهوة بينها. يفترض بدولة هي في الواقع القوّة العظمى الوحيدة في العالم عدم التخلي عن مسؤولياتها والانضمام الى نظرية بوتين في مكافحة الإرهاب. لا يعني ذلك رفض التعاون مع روسيا عندما تكون على حقّ. على العكس من ذلك، لا شيء يمنع التعاون مع روسيا. ولكن يبقى الفارق كبيرا بين التعاون مع روسيا والرضوخ لها. كذلك، يبقى التعاون مع روسيا شيء ومكافأتها على ما فعلته في أوكرانيا او سوريا شيء آخر. سيعتمد الكثير على الفريق الذي ستكون له الكلمة الأخيرة في إدارة ترامب الذي ليس معروفا بعد مدى عمق العلاقة التي تربطه بالإدارة الروسية. ما ليس معروفا أيضا هو مدى القدرة الروسية على ابتزازه لاسباب قد تكون لها علاقة بفضائح ذات طابع شخصي سيؤدي كشفها يوما الى عدم تمكين الرئيس الاميركي من اكمال ولايته وحلول نائبه مايك بنس مكانه. في كلّ الأحوال، هناك وضع غريب عجيب في واشنطن. من بين الغرائب انّ الصحافة الاميركية المحترمة لم تكن يوما معادية لرئيس أميركي منذ اليوم الذي دخل فيه البيت الأبيض، كما الحال مع دونالد ترامب. خيرالله خيرالله