ليس من الواضح على وجه التحديد متى، أو ما إذا كانت، سوف تنعقد الجولة المقبلة من «محادثات السلام» حول سوريا. وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك أمرًا واحدًا واضحًا بالفعل: المزيد والمزيد من الأطراف الضالعة في الصراع السوري يشير إلى إشارات الاستعداد المستمر لمعالجة الأسباب الأساسية لما بات يوصَف بأنه أكبر كارثة ومأساة إنسانية في القرن الجديد. ومن دون شك، فإن أحد تلك الأسباب هو السقوط السريع لإيمان وثقة الشعب السوري في نظام حكمهم، الذي أحكم قبضته على مقاليد البلاد منذ عام 1970. ولا يعني هذا أن الشعب السوري يحب نظام حكم آل الأسد، سواء كان في أحسن أو أسوأ أحواله عبر السنين الماضية. بل إن ما يعنيه ذلك هو أن كثيرًا من السوريين، وربما السواد الأعظم منهم، كانوا على استعداد لتحمل النظام الحاكم بالطريقة نفسها التي يتحمل بها المرء سوء الأحوال الجوية. وأولئك الذين زاروا الأراضي السورية إبان عهد حافظ الأسد ثم نجله بشار، لاحظوا حالة من المشاعر السائدة التي يطلق عليها الفرنسيون اسم «desamour»، وهو مصطلح يعني شعور «اللامحبة»، الذي، في وقت من الأوقات، يؤدي إلى الكراهية العميقة. وبالتالي، فإن هناك إجماعًا للآراء بات يتشكل، حتى في تلك الأماكن غير المتوقعة، مثل موسكو، وطهران، على أن مغادرة الرئيس بشار الأسد للسلطة لا بد منها، عند مرحلة ما، وأن تُعتَبَر من الأمور الحتمية التي لا محيص عنها. قبل عام من الآن، اعتبرت كل من موسكو وطهران مغادرة الأسد للسلطة أمرًا غير قابل للنقاش والتفاوض. وفي هذا الوقت، أصرَّت الديمقراطيات الغربية، باستثناء عجيب من قبل إدارة الرئيس باراك أوباما، على أنه شرط لا غنى عنه بالنسبة للوصول إلى التسوية السلمية. ومنذ ذلك الحين، عدّل كل طرف من الأطراف المعنية بالصراع السوري من مواقفه. لم تعد موسكو وطهران ترفضان الحديث عن التقاعد النهائي لبشار الأسد. وعلى النقيض من ذلك، فإن لندن، والآن واشنطن، في عهد الإدارة الأميركية الجديدة، قد أرسلتا بإشارات تفيد بأنه لم تعد هناك مطالبة مباشرة بضرورة تنحي الأسد عن السلطة باعتباره شرطًا من الشروط المسبقة لتحقيق التسوية السلمية للصراع في سوريا. الخروج الهادئ لبشار الأسد من معادلة الصراع السوري يلقى عددًا من الصعوبات القائمة. أولها طول الفترة الانتقالية المؤدية إلى خروجه التام من السلطة في البلاد. لرغبة الأسد في البقاء على رأس الحكم في سوريا حتى نهاية ولايته الرئاسية الحالية، مما يعني بقاءه في دمشق لخمس سنوات أخرى على أدنى تقدير. وتصر القوى الغربية، على الرغم من ذلك، على ألا تتجاوز المرحلة الانتقالية 12 إلى 18 شهرًا على الأكثر. ومن الأنباء اللطيفة أن وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون قد اقترح أنه، مع نهاية المرحلة الانتقالية، قد يُسمح لبشار الأسد بفرصة ترشيح نفسه لإعادة انتخابه رئيسًا للبلاد. وقد يبدو مقترح السيد جونسون من قبيل «ذهب الحمقى»، بسبب أنه من غير المرجح أن تسنح أية فرصة لبشار الأسد في أي انتخابات لا يشرف بنفسه عليها. ومع ذلك، فإن لفتة كهذه من شأنها تجسير الفجوة ما بين القوى الغربية والمعسكر الموالي لبشار الأسد بقيادة روسيا. وطول المرحلة الانتقالية، مع ذلك، ليس المشكلة الوحيدة؛ فإن الأسد ومن يدعمونه ما زالوا في حاجة إلى تسوية تلك المشكلة الشائكة المتعلقة بأين، ولأي فترة، سوف يمضي الحاكم السوري المخلوع، وحاشيته، الفترة المتبقية من حياتهم. وإذا كانت المعلومات التي بحوزتنا صحيحة، فلم تعرب طهران أو موسكو عن رغبتهما في استضافة الحاشية التي سوف تكون محل جذب للعمليات الانتقامية الأكيدة من جانب أولئك الذين عانوا وبشكل رهيب من نظام حكم الأسد في السنوات الأخيرة. كذلك، فإن العثور على الدولة المضيفة التي لا بد أن تضمن سلامة الأسد وحاشيته ليس بالمهمة السهلة اليسيرة. أما المسألة الأكثر تعقيدًا من ذلك، فتتعلق بضمان أن الأسد يريد الحصانة ضد الملاحقات القضائية المتعلقة بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وتكمن المشكلة في أن الطريقة التي تطور بها القانون الدولي فيما يخص جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية عبر العقود الثلاثة الماضية، تجعل من مثل هذه الاحتمالات أمرًا بعيدًا عن التصور والمنال. لمدة قرن من الزمان تقريبًا، حمى مبدأ الحصانة السيادية كثيرًا من الحكومات والزعماء ضد الاتهامات بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وعلى الرغم من تآكل هذا المبدأ إبان محاكمات قادة الحزب النازي في نورمبرغ، لم يصمد ذلك المبدأ كثيرًا حتى حلول عقد التسعينات. وكان هناك إجماع للآراء على أن العدالة لا بد أن تُطبق، حتى في الدعاوى المدنية المتعلقة بالحصول على التعويضات المالية و/ أو إعادة الممتلكات المصادرة على نحو غير قانوني، في حين تجعل من المستحيل تقديم المسؤولين الحكوميين للمحاكمة القضائية. وهناك تطور مهم آخر ألا وهو اختفاء «الإسقاط بالتقادم» كمبدأ من مبادئ القانون. وبالتالي، وبصرف النظر تمامًا عن طول فترة حياته، سوف يظل بشار الأسد هدفًا محتملاً طيلة معيشته لمواجهة المحاكمة على ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ولقد تأسس هذا المبدأ بصورته الأكثر دراماتيكية من خلال قضية تشارلز تايلور، رئيس ليبيريا الأسبق، الذي كان ضالعًا في ارتكاب جرائم الحرب في سيراليون، وقضايا الزعماء الصرب سلوبودان ميلوسيفيتش، ورادوفان كراديتش، وراتكو ميلاديتش. وعلى الرغم من الضمانات غير الرسمية التي أعربت عنها فرنسا إلى جانب عدد من حلفائها الأفارقة، وعدد من الزعماء الأفارقة السابقين، ومن بينهم الرئيس التشادي الأسبق حسين حبري، فإنها جميعها تصب في التصنيف نفسه. كما أن هناك تغييرًا آخر يتعلق بتطورات مقاربة جديدة حيال قواعد الإثبات. ففي بعض الحالات، على سبيل المثال محاكمة زعماء الخمير الحمر في كمبوديا، فإن الأدلة التي طُرِحت أمام المحكمة المتعلقة بجرائم الحرب المرتكبة كانت تتألف كلها تقريبًا من شهادات الأفراد الضحايا أو الناجين من الحرب، وكانت بالتالي عرضة للمزيد من التحقق والاستجواب. وبين عامي 2012 و2013، كان هناك مشروع خاص عمل عليه ذلك المكتب فيما يتعلق بالصراع في سوريا، وجمع من خلاله كمًا هائلاً من الأدلة حول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها بشار الأسد ونظامه. وفي إشارة على حسن النية نحو جمهورية إيران الإسلامية، أغلق الرئيس أوباما ذلك المشروع في عام 2013، ونقل ميزانيته إلى مشروع آخر. وعلى الرغم من ذلك، فإن الأدلة المتجمعة لدى المكتب سليمة تمامًا، ويُمكن استخدامها في أية قضايا محتملة ضد الأسد ونظامه وحاشيته. وعملت دول أخرى، بما في ذلك الدنمارك وألمانيا، من ناحيتها، على جمع الأدلة المتعلقة بسوريا، وكان ذلك في بعض الأحيان يتم بالتعاون مع اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا. ووجهت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الاتهامات علنًا لقوات الأسد بارتكاب «الجرائم ضد الإنسانية»، التي لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهلها. وقالت المستشارة الألمانية في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2016 في برلين: «إن استخدام البراميل المتفجرة والقنابل الحارقة، وحتى الأسلحة الكيميائية، لن يتم التغاضي عنه أو تجاهله. لقد تعرض السكان المدنيون إلى عمليات تجويع ممنهجة، وتعرضت المؤسسات الطبية للهجوم، وتعرض الأطباء للقتل، وتعرضت المستشفيات للتدمير»، حيث أضافت أنه حتى القوافل التابعة لمنظمة الأمم المتحدة لم تسلم من القصف والدمار. من جانبها، نشرت اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا عددًا من التقارير، كان آخرها متعلقًا بالمذابح المنظمة للمعتقلين في السجون السورية التي يشرف عليها نظام بشار الأسد. وذكرت التقارير الصادرة عن اللجنة أن الآلاف من المعتقلين الذين كانوا قيد الاعتقال لدى الحكومة السورية قد تعرضوا للتعذيب الشديد أو القتل جراء التعذيب. وصرح باولو بينيرو، رئيس اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في سوريا قائلاً: «تعرض كل معتقل تقريبًا من الباقين على قيد الحياة إلى التعذيب والانتهاكات التي لا يمكن تصورها»، مشيرًا إلى أن أولئك المعتقلين لدى الحكومة السورية يمكن وصفهم بأنهم «بعيدون عن الأنظار ولا يعلم بأمرهم أحد: الموت المحقق في الجمهورية العربية السورية». أخيرا وليس آخرًا، هناك العشرات من المنظمات غير الحكومية والآلاف من الناشطين في مجال حقوق الإنسان، وكثير من المواطنين السوريين، كانوا يعملون على جمع الأدلة ويوثقونها عبر السنوات الماضية. لم يواجه أي حاكم آخر عبر التاريخ هذا الكمّ الهائل من الأدلة التي تشير إلى دوره المباشر في المأساة. وليس السؤال ما إذا كانت تلك الأدلة سوف تؤيد قضيتها القائمة، وإنما السؤال هو: متى سوف يتحقق ذلك؟