دوافع الانضمام بين التكتيكي والإستراتيجي قبل نحو ثلاث وثلاثين سنة، انسحب المغرب من "منظمة الوحدة الأفريقية" احتجاجا على اعترافها بما سمي في حينه ولا يزال "الجمهورية العربية الصحراوية". لم يعد لذات المنظمة من أثر يذكر اليوم، لقد جرت مياه كثيرة من أمامها وخلفها استدعت "حلها"، وإعادة صياغة ميثاقها من جديد، وتغيير إسمها أيضا ليصبح: "الاتحاد الأفريقي". ولذلك، فليس من الدقة في شيء القول بأن المغرب قد عاد ليحتل مقعده الشاغر في المنظمة منذ 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1984، ولا من الدقة في شيء القول بأن العملية إجرائية ومسطرية خالصة -أي مقتصرة على تجديد الوثائق وتحيينها- ليتم البتّ في العودة وفق مبدأ التصويت. العملية ليست عودة، إنها انضمام كامل الأوصاف والمقومات من لدن عضو مرشح للالتحاق بهياكل منظمة إقليمية (الاتحاد الأفريقي) لم يكن المغرب ضمن أعضائها من قبل، حتى وإن كان عضوا مؤسسا في المنظمة التي كانت سابقة عليها في الزمن، أي منظمة الوحدة الأفريقية. ولهذا السبب، فقد كان المغرب مطالبا بخوض عملية قانونية وسياسية حقيقية، انطلقت باعتماد المستوى التشريعي المغربي لوثائق الانضمام، ثم تم إخضاع هذه الأخيرة لمساطر الاتحاد ليبت فيها وفق آليات إجرائية دقيقة، وانتهت محصلتها النهائية بقبول عضوية المغرب في "الاتحاد الأفريقي" عضوية كاملة إلى جانب الـ54 دولة الأخرى، بما فيها "الجمهورية العربية الصحراوية" التي تسبب التحاقها بالمنظمة (الأصل) في انسحاب المغرب ومقاطعته لأشغالها أكثر من ثلاثة عقود. دوافع الانضمام هذا من زاوية التوضيح وبيان أسباب النزول. أما في السياق، فإن انضمام المغرب للاتحاد الأفريقي يبدو لنا مسألة بديهية للغاية، أقله من زاوية انتمائه الجغرافي للقارة، والتاريخ المشترك الذي يربطه بالعديد من أعضاء ذات الاتحاد، ناهيك عن أصالة وتجذر البعد الأفريقي في السياسة الخارجية المغربية لمرحلة ما بعد الاستقلالات السياسية. " كان المغرب مطالبا بخوض عملية قانونية وسياسية حقيقية، انطلقت باعتماد المستوى التشريعي المغربي لوثائق الانضمام، ثم تم إخضاع هذه الأخيرة لمساطر الاتحاد ليبت فيها وفق آليات إجرائية دقيقة، وانتهت محصلتها النهائية بقبول عضوية المغرب في "الاتحاد الأفريقي" عضوية كاملة " ولذلك، فإنه إذا كانت ثمة ظروف "حتمت" حقا على المغرب الانسحاب من منظمة الوحدة الأفريقية، فإن هناك أيضا ظروفا استدعت استعجالية انضمامه للاتحاد الأفريقي وفي هذا الوقت بالذات: - أولا: لم تعد موازين القوى السائدة قبل ثلاثة عقود في القارة الأفريقية هي القائمة اليوم، أو بالأحرى هي الناظمة لعلاقات بلدان القارة فيما بينها. لقد ذهب رعيل من الرؤساء والملوك وقدم رعيل آخر. لقد تراجعت الأيديولوجيات كثيرا -أي منظومة الأفكار التي سادت وانتشرت في سنين ما بعد استقلال دول أفريقيا- ولم يعد يعتدّ بها إلا فيما ندر. - ثانيا: لم تعد الحسابات الجيوسياسية التي كانت قائمة آنذاك هي المتحكم الأساس في علاقات البلدان الأفريقية بعضها ببعض. لقد بات البعد الاقتصادي والتجاري أحد الأبعاد الكبرى التي تؤثث طبيعة وتوجه ذات العلاقات. بمعنى أن الإكراهات الاقتصادية باتت ضمن المحدِّدات الكبرى لتوجهات هذه الدولة أو تلك، بخصوص هذه القضية الإقليمية أو تلك. - ثالثا: لقد طالت القارة الأفريقية ظواهر ومستجدات لم تكن ضاغطة من ذي قبل، ولا لها نفس الوزن والقوة. إذ دفعت تيارات الهجرة العابرة للحدود -ومد الحركات الإرهابية تحديدا- بالعديد من الدول للبحث عن حلفاء جدد، إذا لم يكن لإيقاف ذات الظواهر فعلى الأقل للحد من مفعولها وتأثيراتها. إنها باتت بحق مرض القارة الذي يهدد وحدة بلدانها الداخلية، ويدفع بجهة تشظي مكوناتها وعناصر لحمتها. تلك كلها عناصر جوهرية أدت ليس فقط إلى التعجيل بانضمام المغرب للمنتظم الأفريقي الجديد، بل دفعت بالعديد من الدول الأفريقية (الفرنكفونية كما الأنجلوفونية على حد سواء) للترحيب بالطلب المغربي، والقبول به بأغلبية ساحقة أواخر يناير/كانون الثاني الماضي. لم يكن الرهان على الإجماع واردا بالمرة، لكن قبول انضمام المغرب دون تحفظات كبرى كان معطى إيجابيا في التعامل مع "الملف المغربي". وبالتزامن مع المعطيات الإقليمية الجديدة، عمد المغرب إلى اعتماد مقاربة جديدة تقطع -إلى حد بعيد- مع ما كان سائدا في العهود السابقة، وفي عهد ملكه الراحل الحسن الثاني على وجه الخصوص، وتتلخص في الآتي: - فالملك محمد السادس رجل براغماتي وعملي، لا يعير كبير اعتبار للأبعاد الأيديولوجية في قراراته وتوجهاته. ويقال إنه امتلك ذات الخاصية من والده الذي كان يسلمه ملفات محددة ويعفيه من الملفات الجارية حتى وإن كانت ذات أهمية بالغة. إنه "رجل الملفات الصعبة"، حسبما يقوله المغاربة فيما بينهم. ولذلك، فعندما قرر الانضمام للاتحاد الأفريقي كان ذلك بناءً على حس براغماتي مفاده: لننضم أولا للاتحاد (حتى وإن كان ضمن أعضائه ما يسمى "الجمهورية العربية الصحراوية")، ولننظر في كل منعرج قادم حالة بحالة. - والملك محمد السادس دفع بالبعد الاقتصادي والاستثماري في كل جولاته الأفريقية، قبل أن يضع ملف المغرب للانضمام إلى الاتحاد. لقد كان يدرك -بحاسته العملية المباشرة- أن الاقتصاد هو مفتاح التأثير في أفريقيا، وأن ما تقوم به الآلة الاقتصادية ستجنيه لا محالة الخانة السياسية في المستقبل. إنه يؤمن بأن الاقتصاد هو قاطرة السياسة، والاستثمار هو الباني للعلاقات بين الدول. ولهذا السبب، رأيناه يدفع بالمجموعات الاقتصادية والمالية الكبرى للاستثمار بقوة في العديد من البلدان الأفريقية -بما فيها تلك التي لا تتبنى طرحه بخصوص مسألة الصحراء- في مجالات: في الفلاحة، والطاقة، والبنى التحتية، والاتصالات، والصناعة. - ثم إن الملك محمد السادس يدرك جيدا أن مبارزة الخصم تستوجب مواجهته حيث هو لا من وراء حجاب. إنه يراهن على مقارعة خصومه ومناهضيه وجها لوجه، عوض أن يترك لهم الباب مشرعا للنيل منه، أو لتقديمه على النقيض من الصورة التي هو عليها أو يراهن على أن يكون عليها. بين التكتيكي والإستراتيجي ليس من المبالغة في شيء القول بأن إسراع المغرب في وضع ملفه للانضمام إلى الاتحاد الأفريقي إنما أذكته اعتبارات تكتيكية، مؤداها الأساسي شغل الكرسي الشاغر منذ مدة طويلة، حتى وإن لم تُنتف أسباب تركه منذ ثلاثة عقود. بيد أن الخيار هو خيار إستراتيجي بعيد المدى، وخيطه الناظم هو القول التالي: عوض ترك منظمة الاتحاد الأفريقي تؤشر بالجملة والتفصيل على قرارات لا تخدم ولا يمكن أن تخدم مصالح المغرب، فإن الأجدى هو الوجود أولا "في عين المكان" حيث يصاغ القرار، ثم الاشتغال ضمن هياكل الاتحاد، وإذا لم يكن من الممكن طرد "الجمهورية الوهمية"، فعلى الأقل تحييد الدول التي تتبنى طرحها تحت هذا الظرف أو ذاك، جراء هذا الابتزاز أو ذاك، يقول البعض. وهو طرح قائم بقوة ضمن خلفيات السياسة الخارجية "الجديدة" للمغرب، لا بل قل هو السلوك الدبلوماسي الجديد المعتمد من لدنه في المحافل الدولية. إلا أن ذات الخيار لا يمكنه إلا أن يصطدم بالوقائع القائمة على الأرض، والتي يبدو من الصعب تجاوزها -فما بالك بالتنكر لها- بحكم تجذرها في هياكل المنظمة: " جبهة البوليزاريو قد تجد نفسها -إن عاجلا أو آجلا- بإزاء مقترح مغربي محتمل لتغيير ميثاق الاتحاد تمهيدا لطرد هذه "الجمهورية"، أو التضييق على حركتها وفعلها في المنتظم الأفريقي، لأن نزول المغرب بكل ثقله في المجال الاقتصادي لا يمكنه أن يكون دون تبعات على مستقبل الجبهة، وعلى تحالفاتها " - فالمغرب مطالب بأن يتعايش -ولو من الناحية النفسية الصرفة- مع خريطة جغرافية للقارة تضم دولة تدعى "الجمهورية العربية الصحراوية" جنوب المغرب، أي في جهة من القارة "متنازع بشأنها"، ففي حين يعدّها المغرب جزءا من ترابه، تعتبرها جبهة البوليزاريو "أرضا محتلة، انتزِعت منها عندما رحلت عنها إسبانيا بداية سبعينيات القرن الماضي". - وهو مطالب بأن يُرافع بالارتكاز على كل الدفوعات التي بحوزته، وبكل ما أوتي من ترسانة قانونية وسياسية وتاريخية وثقافية واقتصادية وأمنية. ليس صحيحا أن المبارزة بين المغرب وخصومه ستقتصر على الجانب القانوني الصرف. ستكون كذلك دون شك، لكنها ستكون أيضا سياسية صرفة، مستحضرة للأدوات الاقتصادية والتجارية والدبلوماسية والدينية وما سواها...، دون الاعتراف بـ"الدولة" الغريمة في الجهة المقابلة من القاعة. - وهو مطالب -فضلا عن كل ذلك- بتوضيح أن "مشكل الصحراء" يتكفل به مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، وأنه إن كان ثمة من دور للاتحاد الأفريقي فيجب أن يكون من باب الوساطة لا من باب التقرير. ومن الوارد هنا أن يتعامل المغرب مع محكمة العدل الأفريقية، لكنه لن يحيد عن اعتبار أن القضية هي قضية الأمم المتحدة في البداية والمحصلة النهائية. وفي الجهة المقابلة، يبدو أن "جبهة البوليزاريو" (المعبر عنها في الاتحاد بـ"الجمهورية العربية الصحراوية") لن يبقى لها نفس الوزن الذي كانت تتمتع به طيلة الفترة التي كان فيها المغرب غائبا: - فهي -ومن خلفها الجزائر وبعض الدول الأفريقية الأخرى- ستكون وجها لوجه مع غريم لها، سيقارعها الحجة بالحجة، وسيلاحقها حيثما حلت وارتحلت، وسيفسد عليها جو الأريحية واحتكار ملف في غياب الطرف المدعى عليه: إنها كانت تنجح في استصدار أحكام دون الاستماع لطرف الدعوى الثاني، فتمهر عليه الدول الأعضاء فرادى وجماعات دون تحفظ كبير يذكر. واليوم بات بجانبها طرف الدعوى الثاني بحججه ودفوعاته. - ثم إن جبهة البوليزاريو قد تجد نفسها -إن عاجلا أو آجلا- بإزاء مقترح مغربي محتمل لتغيير ميثاق الاتحاد تمهيدا لطرد هذه "الجمهورية"، أو التضييق على حركتها وفعلها في المنتظم الأفريقي. إن نزول المغرب بكل ثقله في المجال الاقتصادي لا يمكنه أن يكون دون تبعات على مستقبل الجبهة، وعلى تحالفاتها وطبيعة العلاقة مع داعميها. لا نستطيع أن نتكهن حقا بما سيترتب الآن على انضمام المغرب للاتحاد الأفريقي، لكن المؤكد أن المعركة ستكون شرسة بكل المقاييس، ليس فقط بين المغرب وجبهة البوليزاريو، بل بين مجموعتين من الدول لكل منها منظومتها وتحالفاتها. ستكون لغة القانون قوية، وكذلك لغة المصالح.