×
محافظة حائل

موجة غبار ورياح تجتاح حائل وتقطع الكهرباء عن بعض القرى

صورة الخبر

تساذجت على أخي وشيخي أبي تراب رحمه الله تعالى كثيراً -وكم تساذجت على آخرين كثيراً أيضاً، والله يعفو عني-، وما أردت بالتساذج والتغابي إضمار سوء لأحد؛ وإنما أردت: إما الاحتراز وإعداد التعامل العاقل الحازم مع ذي كيد، وإما الإلمام بشيء من طوية صاحبي وميوله، فأتعامل معه بدعوة إلى الخير تعاملاً يسلس به قياده إكراماً له وفق مبدأ (أكرم أخاك بما يحب).. وإما إشباع غرور متمعلم علي لا يظن أني أفقه شيئاً، فأزداد له سذاجة وتغابياً؛ فأشبع غروره وما يدل به من العلم حتى إذا عيل صبري رجعته القهقرى، وكشفت له عن مخبوء سياحة شاسعة لا يستطيع السبح فيها.. وكان الشيخ أبو تراب رحمه الله تعالى مدلاً علي بعلمه يصارحني بأنني (بديوي مسكين)، وأنني (سفيه أخرق التصرف في المال)، وكان يرمز لبعض الجلساء بذلك، فأسر بذلك، وأقول: ولماذا أكثرت التردد على جدة (يقول أحمد قنديل رحمه الله تعالى: عيشي على الضم في صدري وأحضاني) عندما تقل زيارتكم الرياض إلا لأنال من بركاتك، فلا تحرمني المزيد من بركاتك وتوجيهك؟!.. وما أظن أن أحداً تفطن لتساذجي سوى ثلاثة: الأول الشيخ عبدالله بن خميس رحمه الله تعالى عندما قال يمدحني: تبدي لنا وجه الطفولة ساذجاً ووراءه الوجه القبيح الأسفع إلا أنه رحمه الله بالغ في مدحي، فجعل وراء السذاجة وجهاً قبيحاً، وإنما هو وجه جميل وقاد فيه بهجة ولهب معاً وفق (إما، وإما، وإما) كما مر آنفاً.. والثاني سماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله تعالى وأنا أقرأ عليه قصتي (الذقن المزيف)، وفيها ذكر (الكونياك) وما تحدثه من نور النعمة لا نور الإيمان؛ فأخذ يردد مراراً: (ما أنت بسهل يا أبا عبدالرحمن).. ومعنى ذلك: (لست على ما نعهده رجلاً على نياته).. والثالث الأستاذ أحمد اليحيى ذكره الله بالخير، وأسبغ علينا وعليه نعمه الظاهرة والباطنة، وهو عضو النادي ببريدة، وكنا صفوة أدبية مجتمعين في بيته للعشاء، وكان يتحدث علينا حديثاً لم يبق في ذاكرتي منه شيء -وأظنه عن جزئية من التاريخ المحلي- إلا أنني تفاعلت معه، واستغربت ما لا يستغربه العامي، وكنت أفرقع أصابعي كالمتحسر الحائر الملتمس الكشف عن مجهول؛ فرمقني بعين فاحصة، وقال بلهجة دارجة: (يا وليدي لا تطقطق علينا بأصابعك!!.. والله إنك تدري وش اللي بين ظفورنا)، فسترت تساذجي وقلت: الله يجزيك خيراً، ويرفع قدرك.. كنت أحسب أنني (ناقة الله وسقياها)؛ ففرجت عني فرج الله عنك كل كرب.. ولكنه لم يقتنع، وقال بكلمة هامسة: إيه الله يعظم أجرك. وأما الشيخ أبو تراب فسمرت عنده ليلة طويلة مع صحب كرام، وأرادوا أن يسمعوا مني؛ فأمطرت عليهم من أعلى الجراب تأصيلات في علم الجمال، والتنظير الأدبي، والتأصيل الفقهي، والتأصيل لعلوم الآلة -وكنت قاصداً متعمداً الظهور بمظهر الموسوعية-؛ فما رأيت الشيخ أبا تراب سارحاً كعادته، بل كان مصغياً منبهراً؛ فلما قام الصحب وقد ظهر عليهم الأرق، وهم يرددون: (شتان بين الظاهريين) -وهي أفصح من شتان ما بين-، وبقيت مع الشيخ أبي تراب وحدنا، فحدد نظره في، وقال بملء فمه: (يا ظاهري نجد: أنت رجل مهم).. فقلت ما معناه وإن لم أستحضر الآن نصه: إن الإمام أبا محمد بن حزم رحمه الله تعالى هو شيخي وشيخك، وقد تجاوز جيل المعاصرة في زمنه ذي الثقافة الشاسعة؛ فكان حداثياً بمعنى الكلمة سبق أبناء زمنه؛ لأنه لم يكن بديوياً مسكيناً، وليس أخرق في ماله، وليس نديماً يحفظ غرائب القصص وأشعار المجون؛ ليعمر بها المنتديات للمسامرة، وليس حاوياً دأبه: (قال، وقيل)؛ وإنما كان مرهف الحس جمالياً، سامي الذوق، دقيق الفكر ذكياً لماحاً -وإن وجد عنده غرائب قليلة من الجمود على الحرفية كانت خطأ في التطبيق-، واسع الثقافة عاليها؛ فكتابه (مداواة النفوس) تنظيم ممتع للعلاقة بالناس، والعلاقة بالمال، والعلاقة بشريط الذكريات التي تستلهم العبرة من تجارب الفرد في مراحل عمره.. وأبحاثه المتناثرة عن (مراتب العلوم) هي بداية التنظيم لتكوين الشخصية العلمية بلا جمود أو احتواء، وبلا سطحية وانسياب، ثم موسوعاته في الفقه والأصول والتاريخ واللغة والفلسفة وعلم الكلام نموذج كريم للاستيعاب العلمي والفكري واستثمار كل حقل معرفي لخدمة حقل آخر.. وفداء له كل أخطائه القليلة التي هي من الهفوات الصلع؛ فما كتب الله العصمة لبشر، وقد رزقنا الله من علمه وذكائه ورهافة حسه وسعة ثقافته وصوابه وإصابته أكثر مما آلمنا من هفواته، ولسنا نجد هذه المحاسن عند غيره مجتمعة، وإنما نجدها بدداً متفرقة في أفراد كل منهم حسب تخصصه؛ فأبو محمد مجموعة علماء موسوعيين أذكياء ذوي رهافة حس في إهاب واحد.. وأما المال فلن يكون صاحبه أخرق ما دام يكدح في طلب الرزق؛ ليكسبه من عشرين طريقاً.. ولن يكون سفيهاً وهو يعلم أن الدنيا متاع إذا جمع الرزق من عشرين طريقاً وفرقه من مئة طريق؛ بل هذا رشد وسماح كريم مبني على التوكل على الرب، والثقة بعطائه، وقد ولدنا عراةً ليس عندنا من الوعي ما نحمل به هم الرزق، بل حصل لي اليقين من تجارب العمر مع حسن التوكل وصدقه: بأن (أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)، و(أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب) عطاء مستمر وإن بذلت لحاجة اليوم ولم تحمل هم غد؛ وذلك حينما يكون الصرف من مئة طريق من أجل تكريم ذي فضل على كثير من الناس وإن لم يكن له يد عندك، أو كان ذا فضل عليك بعد الله، أو كان ذا علم وشرف في قومه، أو كان ذا مسؤولية تنال من وداده الشفاعة عنده لأعباء إخوانك، أو كان صديقاً، أو عابر سبيل، أو ذا دين وصلاح وهو لا يؤبه له في المجتمع؛ فترفع من مكانه، أو كان مغترباً فتكون له أهلاً.. وأما من تتقي شره فلا تدفع ذلك بإكرامه، وترفع عن عشرته، وتوكل على الله.. وضمن النفقة الراشدة التوسعة على الولد والأهل وذوي القربى والجار؛ فما ازددت بذلك بحمد الله وفضله إلا تواتر الرزق، ونوافح الدعوات؛ وإنما وقعت في شيء من السرف في بعض الموائد خشية ازدياد العدد؛ فتعهدت نفسي بالاقتصاد تدريجياً، وبحمد الله خلفت لذريتي مساكن تسعهم، وبقية المسؤولية عليهم يستعينون بالله في تزكية أنفسهم؛ لينتفعوا بدينهم وإيمانهم وعقولهم ومواهبهم وجوارحهم والله بصير بأحوال عباده فيمن يبسط له الرزق ومن يقدر عليه، وكل حي رزقه مضمون، وخير الخلق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يكون رزق آل محمد كفافاً -وإن لم تخني الذاكرة فقد جعل الدعاء لعموم أمته-.. والشيخ أبو تراب ههنا منصت بفكر غير مصغ لي باستعلاء وازدراء، وهو مدرك ما أعني من معاني البديوي، والأخرق، والحاوي، والنديم؛ فكرر العبارة بمفردة أخرى: (أنت خطير يا ظاهري (يا زاهري بزاي قريبة من مخرج السين والظاء المعجمة) نجد).. ومنذ ذلك اليوم كان ينظر إلي أكثر من ند، ويتحفظ مني كثيراً، وما اصطنعت التساذج والتغابي إلا خوفاً من التحفظ، ولكن عيل صبري؛ فاضطررت إلى المصارحة؛ فكنا إذا لمنا المجلس وفيه مثل الأساتذة محمد حسين زيدان، وأحمد عبدالغفور عطار، وغيرهما رحمهم الله تعالى ممن لا أستحضره الآن يرمي بي في فم المدفع في أمور تحرج فيها المناظرة، ومن يومها قل بيننا العراك الصحفي، وكان لا يغفل عن مهاتفتي: إما ملحاً علي بالقدوم إلى جدة، وإما مخبراً إياي بالقدوم إلى الرياض.. ومرة قال لي مهولاً: (لقد دمعت عيني وأنا أقرأ مقالتك في نقدك تحقيق الإمام الأزهري في تهذيب اللغة).. وكان نقدي حول مادة الحاء المهملة واللام المضعفة، وأن الشاهد من شعر الأعشى قصيدة موضوعة على الأعشى، ويرى في ذلك تطاول جاهل على العلماء الأئمة؛ فكنت أستميت له بطلب التوجيه، والتخلص من أسر ما اعترضت به؛ فمرة يحيلني إلى إمامة الأزهري، وأن بيني وبينه مراحل شاسعة لأعانقه في الإمامة؛ فقد فات أوان ذلك.. ومرة يكون الرد بعربجة الأدباء كتحريك الأصبع الوسطى مع كلمة مجونية معبرة؛ فتشتد قسوتي في الجريدة، ويرتفع صوتي؛ ولهذا تكدرت المودة بيننا أعواماً، ثم استقرت النفوس على المودة في الأعوام الأخيرة من حياته رحمه الله تعالى. قال أبو عبدالرحمن: وأما السذاجة البريئة عن التغابي فهي حالة ملازمة لي إلى هذه اللحظة في أمرين: أحدهما فيما لا أعرفه وما لا سعة لي في أن أتعلمه كاستعمال أدوات التقنية الحديثة، أو دقائق في علم الفيزياء وما أشبه ذلك، وهكذا الرياضيات كالجبر؛ فلا أزال عاجزاً عن فهم هذه الرموز؛ فيكون تساؤلي عن غباء وليس عن التغابي، وأضرب المثال لذلك لما غيم على عيني الماء الأبيض، وقبل إجراء العملية كنت أسأل بعض الأحبة وأقول: أليس من الأفضل إذا اضطررت إلى شرب الماء قبل النوم أن أبقى جالساً قليلاً؛ كي لا يتراكم الماء ويتجمد في عيني؟.. فأخجلوني بضحكهم المنبعث من السخرية؛ فالشكوى إلى الله هذا مبلغ علمي في الطب، وما كنت مفتياً؛ وإنما كنت متسائلاً.. وثانيهما ما كنت في معاناته من العلوم والثقافات؛ فيكون تناولي له قبل أن أهضمه سذاجةً وغباءً حقيقياً، وأذكر نموذج ذلك أبحاثاً لي قديمة عن القنص والقناص تفقهت فيها من كتب البيزرة، وأدبيات الجاحظ في كتابه (الحيوان)، ومن سياق الشعر الفصيح والعامي، فلما رافقت القنص والمقناص في الآفاق قرابة عشرين عاماً رأيت العجب العجاب من سذاجة وغباء ما كتبته، ولعل العهدة على بعض مؤلفي ثقافتنا العربية ككلامهم عن المثل (أسلح من حبارى) بأن الحبارى تسلح على الصقر في الجو؛ فيقيده السلح ويسقط؛ فلما عايشت المقناص وجدت ذلك محالاً، ولا سبيل للحبارى إلى السلح في الجو؛ وبلغة أهل المقناص اليوم؛ فالحبارى (تمرش) أي تسلح على (الطير) بدلاً من الصقر إذا دنا منها، فإذا أصاب ذلك مخالبه أو ريشه أو صدره كان لها فرصة النجاة بالتحليق البعيد، ويبقى الطير أسيراً لا يستطيع الحراك مع ما يصيبه من الإحباط؛ فيقولون: (الطير فشل)، ولا ترتد إليه شجاعته إلا بعد معاناة طويلة من الصقار.. ولا يلام الطير ولو لم يقيده المرش، بل مجرد الرائحة الكريهة يمرض أيضاً؛ فقد عانيت مرة أن الحبارى منوخة عند باب السيارة من جهتي ولا نعلم بها، فلما قرب منها الطير أرسلت له المرش، وحلقت فوق الباب الذي من جهتي فأصابتني البقية من المرش ابتداءً بالجبين إلى الأنف إلى الشفتين، وهو أقبح من طرح بني آدم (بلغة أخوال بعض ذريتي في معنى الطرح عندهم)؛ فأصابني الغثيان وضعف الشهية أياماً، وكدت أتسبح بالعطر الفرنسي فما أزال ذلك غثياني؛ لأن ما تحمله الحافظة من الذكرى القبيحة لا تمحوه الحسيات؛ وإنما يمحي مع بعد العهد والتناسي.. ومن هذا الباب سذاجتي في إدراك الجماليات في الشعر الحداثي خاصة؛ لغلبة الإلف لجماليات التراث، بل كان الإدراك السريع قاصراً على مدى معقولية المضمون وشرفه من جهة دقة الفكر، وشرف العلم، وصدق الانتماء تاريخياً؛ فبدأت مسيرتي ساعياً إلى الإنقاذ من الحداثة في هذا الجانب عن وعي، مع الاستهتار بجمالية الحداثة عن سذاجة، فنظمت يومها قصيدة تهكمية على وزن (بعر الكبش) لا معنى لها، وليس بين مفرداتها ترابط؛ وأريد بذلك التنكيت لا غير!!.. وظللت ملحاً في تحليل شعر الحداثة؛ لأستزيد من الاستهتار به من الناحية الجمالية؛ فإذا بالجاذبية تبتلعني بقيم كنت غافلاً عنها من قيم الإيحاء والتداعي واستغلال دلالة الموصوف أو المسمى نفسه، ودلالة الارتباط بين الأعيان في الزمان والمكان، واستقطار الرمز والقناع من الأسطورة والحلم والألوان.. إلخ.. إلخ، والعلاقات النفسية في المجاز؛ ففي كل ذلك سعة تعبير بالاستنباط في الكلام المركب، وجمال تعبير، ولذة إيحاء، وجيشان حس، وخصوبة خيال تثريه، ودقة فكر، ومتعة ثقافة على طول التاريخ وعرضه؛ فتحولت بوعي لا عن سذاجة -وكل مراحل العمر في معاناة كل طارئ تبدأ بالسذاجة بمعناها الرديء، وهي تعريب (ساده)-؛ فكنت مخلصاً من الحداثة داعياً إليها في آن واحد بلا تناقض؛ لأن المعايير ثابتة الدلالة لا يزحزحها اختلاف التاريخ، وإنما يتجدد تاريخياً موضوع القيمة، ونوعية مدلولها المعياري حقاً أو خيراً أو جمالاً؛ ولهذا فالأدب في تراثنا التاريخي البشري حكمه حكم الأدب في الحداثة، ومهمة الناقد موهبةً ودربةً أن يكون من أكبر الدعاة إلى الإنقاذ من البثور.. خذ مثلاً طريقة التصويريين في نثرهم أعياناً؛ لتكون دالة بالاقتران في الزمان والمكان على كلية معنى جمالي مترابط دلت عليه معاني المسميات أو الموصوفات لا دلالة الألفاظ اللغوية مباشرة، وهذه الدلالة مريحة أو مؤلمة؛ فهذه حداثة يحلق الناقد معها، ولكنه يتحول إلى أعنف داعية يريد الإنقاذ منها إذا كانت النتيجة من ذلك الاقتران مجرد التصوير الفوتغرافي كما فعل أحمد عبدالمعطي حجازي في المقارنة بين الريف والمدينة؛ فإنه في معادلته بقصيدته (أنا ومدينتي) ينثر هذه الصور من الأعيان في المدينة (وهو تابع لشعور سابق عند الخواجات ثم العرب حول مدينة تأكل بنيها): (رحابة ميدان، وتلال جدران تختفي وراء تل، وعين مصباح فضولي ممل، وحارس غبي.. والمدني وريقة في الريح دارت، ثم حطت، ثم ضاعت في الدروب.. وهكذا ضائع بدون اسم)؛ فالشعور بالمدلول النفسي لهذه المرئيات هو الوجود الفكري الأدبي الجمالي لا مجرد الرسم الفوتغرافي؛ لأن الشاعر مخدوم بمهمة الالتقاط بآلة التصوير التي أنتجتها الصناعة، وبريشة فنان دربها فكر الفن التشكيلي.. ولله در الناقد البليغ الدكتور عز الدين إسماعيل؛ لدقة إحساسه الجمالي ومقوماته الكمالية؛ فقد لاحظ قول أبي تمام في وصف حريق عمورية: ضوء من النار والظلماء عاكفة وظلمة من دخان في ضحى شحب فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت والشمس واجبة من ذا ولم تجب فهذا التعبير خبر لا يبلغ مهمة آلة الكمرة، والفنان التشكيلي باستيفاء ألوان وكيفيات المرئي، ولا مدلول وراء ذلك إلا أن حريقاً وقع، وليس وراء الصورة مدلول نفسي ينبعث منه تفكير أدبي وحس جمالي.. ومن هذا المنطلق كان عمل الأستاذ الدكتور عز الدين إسماعيل دعوةً صريحة إلى تهذيب الصور والتعبير الحداثي من الهوامش الفضولية، وقد ذكر قول الشاعر الوديع محيى الدين فارس: (والريح تجلدني سواعدها المديدة). فضاق بهامشية السواعد المديدة؛ لأن المهم تصور الريح جلاداً، وأما الجلاد فمعروفة حقيقته؛ فلا داعي لاستعارة السواعد المديدة.. قال الدكتور عز الدين إسماعيل: (وبعبارة موجزة أقول: إن الصورة الشعرية اكتملت عندما قال الشاعر: (والريح تجلدني).. ثم هبطت عندما أضاف إليها: (سواعدها المديدة).. ثم قال: (ولقد صادفت أكثر من شاعر محدث (حداثي أخص وأذوق) يستخدم هذه الصورة استخداماً موفقاً على النحو الذي أشرت إليه، فالشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي يقول مثلاً في قصيدته الموت في الخريف: (يا صامتاً والسنديان الشاحب المقرور تجلده الرياح). والشاعر حسين علي صعب يقول: (الريح يجلد جبهتي ويمر ملتاع الهبوب). والشاعر خليل حاوي يقول في قصيدة السجين: (هل أخليها... شبحاً تجلده الريح...) ولم يشأ واحد منهم أن يدلنا على الأداة التي استخدمتها الريح في عملية الجلد؛ لأننا في غير حاجة إلى معرفتها.. هذا وإن عاد الشاعر صعب (الأفصح: هذا وإن كان الشاعر صعب قد عاد؛ فأفسد الصورة بحديثه الجديد عن مرور الريح ملتاعة الهبوب) (انظر الشعر المعاصر/ قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ص 154 - 155، وانظر ص 156). قال أبو عبدالرحمن: وإنما يقبل التهميش إذا كان إيضاح لبس ونفي احتمال كما في قول مسلم بن الوليد: يذكرنيكَ الخيرُ والشرُّ كلُّه وقيلُ الخنا والعلم والحلم والجهل فألقاكَ عن مكروهها متنزهاً وألقاك في محبوبها ولك الفضلُ فلما وقع الشاعر في ورطة دلالة البيت الأول على الهجاء وهو غير قاصد ذلك على منهج (التوجيه) في علم البلاغة: اضطر في البيت الثاني إلى نفي احتمال أدنى شائبة من الهجاء (انظر شرح الكافية ص 214).. وما مر من قصيدة عبدالمعطي حجازي تراكم حداثي مستهلك يظل بارداً بحاسة الجمال إلى أن تبعثه على الأمد البعيد بارقة من الحنين بعد السأم؛ وهذا إحساس عند الشاعر العربي والخواجي معاً.. قال الشاعر العربي عنترة: (هل غادر الشعراء...)، وقال الشاعر الخواجي -اسمه سلاف ج. كاراسلافوف-: (لقد اهتز لساننا من قصائد. حول ما هب ودب). (مجلة الآداب الأجنبية السورية 58 - 59/ ص69)، وأكثر ما يكون ذلك في الشعر المرتبط بالذاكرة؛ إذ يتخم الشاعر بالهوامش - كهامش السواعد المديدة - فيحسب أنه ذو نجر إبداعي، وما هو سوى متلقن مدلول شعبي كما يتلقن الطفل لغة قومه؛ وإذا كان مثل هذه الهوامش كثيراً في الشعر العمودي المعاصر، فإن لدى الناقد الحداثي فضولاً أكثر؛ بسبب التشبع بكلام الخواجات.. خذ مثال ذلك ناقداً وجدت في حواشيه مصدراً يروق لي، وهو (الشعر والتجربة) لأرشيبالد مكليش الذي ترجمته (سلمى الجيوسي)؛ فذهبت أهتدي برقم الإحالة لأنظر أي نص نفيس نقله؛ فإذا هو عن التنظير لعملية التركيز والتكثيف لدى الشاعر الأصيل، وإذا هو يستشهد بقول مؤلف كتاب الشعر والتجربة عن قدرة الشاعر الأصيل: (... يأسر السماء والأرض داخل قفص الشكل)!!.. (مجلة أقلام 22 - 102 العدد الثاني)؛ ولا أحصي ما هو كثير من مثل هذا الكلام الخواجي في أعمال المنظرين، وهو كلام مجازي لا يليق بمنهج التنظير؛ لأن التنظير لا يفسر بما يحتاج إلى تفسير، ثم إنه لا جمال أدبي، ولا تحفة فكريةً في جملة: (... يأسر السماء... إلخ)، وإنما هو عقدة التكثر بكلام الخواجات، وأجمل من ذلك؛ مراعاةً لعظمة الكون: (يريك ما يبدو من السماء والأرض من خلال اللوحة).. وحان قرب يوم يمج فيه الحداثيون (جلد الريح)؛ لأن ذلك جملة من المسكوكات؛ فيتطلعون إلى جديد، ثم يدركهم الحنين إلى القديم، وإلى لقاء تكميلي مع هذا البث في لقاء عاجل قريب إن شاء الله.. والله المستعان، وعليه الاتكال.