شاهدت مرة، على إحدى الشاشات العربية، صدام حسين جالساً على المنبر وتحته في الصالة شعراء يمتدحونه، كل بدوره، وكلما انتهى واحد صفق الآخرون له، بينما الديكتاتور منتشٍ على كرسيه. كان هؤلاء شعراء النظام والبعث بل شعراء صدام، وبعضهم يرتدي البذلات العسكرية تيمناً بالقائد. شعراء النظام هؤلاء شاهدتهم عن كثب عندما زرت بغداد مرة في مهرجان مسرحي، وليس في المربد الذي لم أُدع اليه البتة، وأبصرت بعضهم يتباهون بالمسدسات التي على خصورهم. كان شعراء النظام هؤلاء من عراقيين وعرب يتجاهلون رفاقاً لهم شعراء، يُساقون الى السجون، يُعذبون أو يُعدمون أو يختفون. وبينما كانوا يتنعمون بما يغدق عليهم النظام من هبات، كان شعراء آخرون لم يحظوا برضا البعث، يُرمون على جبهات الحرب العراقية – الايرانية بغية إبعادهم وقتلهم واستعادتهم أو عدم استعادتهم، شهداء. ناهيك بالشعراء الآخرين الذين فروا الى منافيهم وتنكبوا أحوال التشرد والفقر وحتى الجوع. ربما طُويت هذه الذكريات الأليمة وباتت من الماضي لاسيما بعد المآسي الرهيبة، الطائفية والمذهبية، التي تضرب العراق، عقب الاجتياح الأميركي والغربي والتدخل الإيراني السافر. غير أن قراءة الكتاب الذي أعده الشاعر العراقي حيدر الكعبي وعنوانه «أعمدة النيران الخضراء- انطولوجيا الشعراء العراقيين الذين قتلهم نظام البعث وصدام 1968-2003» سرعان ما تنفض الغبار عن «ذكريات» البعث المأسوية وتخرجها الى الضوء. هذا الكتاب الذي تبناه الشاعر والناشر العراقي خالد المعالي (دار الجمل) هو في آن واحد، أجمل تحية يمكن أن تُؤدى الى شعراء منسيين قضوا تحت مقصلة البعث وصدام، وأقسى إدانة يمكن أن تنزل في ذاك النظام وذاك الدكتاتور. يعيد الكتاب الى الواجهة هؤلاء الشعراء المقتولين ويرد اليهم مقداراً من حق وينقذهم من هاوية الاندثار والنسيان. يسترد الكتاب كما يعبّر معدّه في المقدمة، حق هؤلاء في الوجود، بعدما سعى النظام الى محوهم، بشراً ومبدعين. ولم تعمد السلطة في عهديها المشؤومَين، الى قتل الشعراء هؤلاء، المعارضين والمحتجين وغير القابلين للترويض، الا بغية إسكاتهم الى الأبد وتلقين الآخرين بهم درساً في الخضوع والرضوخ والانقياد... قد لا تعبّر القصائد التي يضمها الكتاب عن حقيقة التجارب التي خاضها الشعراء الشهداء الذين طالما عدّهم النظام «مجرمين»، فهي مجرد مختارات، غايتها تقديم صورة بانورامية عن شعرهم. وقد لا يندرج نتاج هؤلاء بمعظمهم، وهو غالباً قليل، في خانة الشعر الطليعي والمحدث أو المجدّد. فهم أصلاً قُتلوا في مقتبل مسارهم الشعري ولم يتسن لهم بلورة إبداعهم. قتلهم النظام شباباً، تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين. لكنّ بينهم حتماً أسماء تندّ عن موهبة لافتة وكان في إمكانها لو قيض لها العيش، أن تكون في مقدم المشهد الشعري، نظراً الى سليقتها وأصالتها. شعراء شبه مجهولين، غالبية قصائدهم ضاعت، وما بقي منها إنما حفظه أصدقاؤهم سراً في الغالب، في قصاصات، مخطوطة أو منشورة في صحف ومجلات مبعثرة. وقد واجه حيدر الكعبي صعوبة في جمع ما جمع من قصائد وصور وسير قصيرة، معتمداً وثائق وشهادات وانطباعات شخصية ومعلومات طفيفة. وأورد كذلك أسماء شعراء لم يعثر لهم على قصائد وكلهم أعدموا. يقول الشاعر القتيل مهدي حافظ: «لقد شنقوا في فمي كلماتي... لقد غسلوني الى آخر الدم فيّ». ويكتب شبيهه حسن مطلك: «قريبة هي الساعة التي سأقول فيها لكل شيء وداعاً... كن سعيداً مرة واحدة وانتحر». ويقول الشاعر رياض ابراهيم: «المشانق منصوبة للعصافير في كل شارع». لعل هذه السطور تعبر عن المحنة التي عاناها الشعراء الشهداء في ظل نظام ديكتاتوري لا يجيد سوى إراقة الدم والدم البريء خصوصاً. يقول معدّ المختارات في المقدمة: «لا بد من بداية». وإذا كانت البداية في هذا الحجم المأسوي، فما تراها تحمل الخطوات التي ستليها؟