آمنت بعد أحداث عديدة حضرتها وعشتها؛ أن السياسي والعالم الشرعي لديهما من الحكمة والتعقل والمعطيات، أكثر بكثير من المثقفين وطلبة العلم والدعاة وعوام الناس، وأنهما يقومان بعلاج المشكلة بهدوء واتزان والنظر للمصلحة العامة للأمة، بعيدا عن سطوة أولئك المثقفين وزعيق العامة، ولا أدلّ على كلامي من الأزمة الكبرى التي اندلعت بين طوائف أهل السنة وبين السلفيين عقب مؤتمر غروزني. شهدنا السجالات وردات الفعل العنيفة على ذلك المؤتمر بالشيشان، والمطالبات التترى التي تلقاها العلماء والساسة بمواقف حازمة ومفاصلة مع هؤلاء الاقصائيين الذين أخرجوا السلفية من طائفة أهل السنة، ووصلت الأمور إلى ترادحات وهجومات وتفسيرات لم تلتزم بأدب الخلاف مع الطرف المؤيد لذلك المؤتمر، فلم يعدم الأخيرون في صفوفهم متطرفين ومتعصبة للأسف، أشاعوا مناخا من الاقصاء الذي نتهم نحن به. كانت أولى ردود الأفعال من لدن هيئة كبار العلماء بالسعودية، التي أصدرت بيانا غاية في الحكمة والاعتدال، وطالبت الجميع بحسن الظن، وأبانت أن الخلاف بين العلماء أمر طبيعي، وقالت: الفقهاء والعلماء والدعاة ليسوا بدعا من البشر؛ فأنظارهم متفاوتة، والأدلة متنوعة، والاستنتاج متباين، وكل ذلك خلاف سائغ، ووجهات نظر محترمة، فمن أصاب من أهل الاجتهاد فله أجران، ومن أخطأ فله أجر. وأسعدني جدا فطنة هيئة كبار العلماء بالسعودية إلى كمون الحزبية والسياسة في صميم الأزمة، وقالت: ليس من الكياسة ولا من الحكمة والحصافة، توظيف المآسي والأزمات لتوجهات سياسية وانتماءات فكرية، ورفع الشعارات والمزايدات والاتهامات والتجريح، متهمة من لا يريدون لهذه الأمة خيرًا بالمراهنة على تحويل أزمات المسلمين إلى صراعات. بيان الهيئة أطفأ قليلا من أوار واحتدام المعركة، ولكن المشكلة لمّا تزل تمور في الساحة، حتى فاجأنا الرئيس الشيشاني رمضان قديروف بحضوره للرياض، وتوضيح المسألة لسمو ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي كان يعمل بصمت وتؤدة أديا لإنهاء الأزمة بطريقة ذكية، ولم يكتف سموه بذلك، بل أرسل أمين عام رابطة العالم الاسلامي الجديد د. محمد العيسى الى غروزني ليلتقي بعلماء الشيشان قبل شهرين، ودخل معهم في حوار عميق حول مفاصل النزاع والملاحظات التي تحسّسنا منها، وأصدروا بعد اجتماعهم بيانا توضيحيا لكل ما التبس، وقال علماؤهم إن المؤتمر لم يقصد الإساءة لأي مذهب أو مدرسة علمية، بل كان الحديث عن مدعي السلفية من أولئك المتطرفين الذي شوهوا الإسلام، ولم يقصدونا البتة. كنت أتمنى أن يحظى المؤتمر بالتغطية الاعلامية التي تستحق، ولكن أحداث حلب للأسف طغت، وإلا فما فعله د. العيسى وعلماء الشيشان مما يستحق الدراسة، بل أبعد من ذلك، يمكن أن يكون قاعدة عامة ومنهجا لطوائف أهل السنة، في وقت نحن بمسيس الحاجة للاصطفاف أمام الصفوية المذهبية التي تريد أن تفتك بأهل السنة، ونتمنى على معاليه البناء على ما تحقق والذهاب إلى إيجاد ميثاق شرف عام لأهل السنة، أن تظل الخلافات العلمية في أروقتها بالجامعات والمعاهد الشرعية والمجمعات الفقهية، إذ تباين الرؤى والاختلافات حاضرة كطبيعة بشرية، لكن تحصر في أمكنتها، في مقابل أن يسود حسن الظن وتقبل المذاهب في المجتمعات الإسلامية دون إقصاء أو تكفير. رابطة العالم الإسلامي حققت نجاحا مبهرا في حلّ هذه الأزمة، والتعويل عليها يتأكد أن تبني وتواصل هذا النهج الذي يجمع الأمة.