إن لسقوط الإمبراطوريات والدول الكبيرة سنناً ما تنفك تتكرر من وقت إلى آخر، ومن إمبراطورية إلى أخرى، فالدول والإمبراطوريات يمكن أن يُشبه عمرها بعمر الإنسان من ناحية المراحل العمرية، وليس من ناحية عدد السنين بالضرورة، فهي تبدأ بالولادة من خلال مجموعة من الآباء المؤسسين لها، ثم تمر بمرحلة الفتوة والشباب والقوة والازدهار، وتتابع في هذا السير صعوداً وهبوطاً أحياناً حتى تبلغ مرحلة الكهولة، فتعم الأمراض والأسقام فيها، ولا يجد الأطباء بلسماً شافياً لها؛ لأن المريض نفسه المتمثل بالدولة يرفض العلاج، ويستمر على ما هو عليه، ثم ما تلبث أن تأتي مرحلة النهاية والسقوط بعد أن يكون المرض قد نخر جسدها؛ لتسلم الراية لدولة أو إمبراطورية أخرى قد مرت بمرحلة الولادة، ووصلت إلى مرحلة الشباب والفتوة، وهكذا كانت سنن الله في كونه، وهي ستبقى على ما عليه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها. وقد يعتقد البعض أن الإمبراطوريات والدول العظمى تسقط بفعل الغزو الخارجي من دول أخرى، أو بفعل الهزيمة في حروب كثيرة، ولكن في التاريخ الماضي وحتى الآن أغلب الدول والإمبراطوريات الكبرى تفككت وانهارت بفعل مشكلاتها الداخلية التي تنخر في جسدها على مر الزمان، حتى إذا ما اقتربت نهايتها، ودخلت مرحلة الاحتضار والموت السريري، جاء الغزو الخارجي فقضى عليها، ليس لقوته في الغالب، ولكن لضعفها مع مرور الوقت. وها هي أميركا اليوم بعد أن مرت بمرحلة الشباب والازدهار بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت مرحلة الكهولة والشيخوخة بعد غزو العراق وأفغانستان، وبدأ الضعف والمرض يدب في جسد هذه الإمبراطورية، ولعل من أبرز مظاهر هذا الضعف، وصول دونالد ترامب إلى رئاسة أميركا، وبرضا من غالبية شعبها. وقد يطرح سؤال بأن أميركا الآن هي الدولة الأولى بالعالم واقتصادها وقوتها النووية كبيران لحد لا يمكن أن يكون سقوطها قريباً، فكيف يقال عكس هذا الكلام؟ لا أحد بالطبع ينكر قوة أميركا، وأنها زعيمة العالم في الوقت الحالي، ولكن للتذكير فقط في تاريخنا القريب كانت ألمانيا واليابان قبيل الحرب العالمية الثانية قوتين كبيرتين، وتمتلكان جيشين من أعظم الجيوش في وقتها، ولكن بفعل المشكلات الداخلية التي تراكمت في الجانب الياباني، وبفعل وصول الحزب النازي متطرف الأفكار وشعبوي التوجه تحول البلدان، وفي مدة لا تتجاوز ربع القرن إلى بقايا دولتين محطمتين ومحتلتين بشكل مباشر كألمانيا، أو بشكل غير مباشر كاليابان. وفي أميركا، جاء ترامب الذي اتسم خطابه بالشعبوية والديماغوجية على مدار حملته الانتخابية، ونجح فعلاً بحشد شريحة كبيرة من الشعب الأميركي خلفه؛ حيث تمكن من إقناعهم بشكل كبير بأن أسباب المشكلات الداخلية الموجودة في أميركا تعود للمهاجرين من مختلف الأعراق، وتمكن أيضاً من توحيدهم خلفه لمواجهة خطر العدو الخارجي، وما يسميه (التطرف الإسلامي)، وحتى في خطاب تنصيبه أعاد نفس الكلام، وفي هذا تكرار لسياسات الرؤساء والإدارات الأميركية السابقة الذين دأبوا على افتراض أعداء لأميركا في الخارج، وتهويل قدراتهم وإمكانياتهم، وذلك للتغطية على المشكلات الداخلية التي يرتفع خطها البياني صعوداً مع مرور الوقت، ولكن مع ترامب تمت زيادة جرعات الكراهية والتحريض نحو الأجناس الأخرى، وتهييج عواطف الناس بشكل كبير على الوطنية الأميركية، وإعادة ما سمَّاه "عظمة أميركا"! وفي هذه الأيام نجد الشعب الأميركي منقسماً على نفسه أشد الانقسام، فالمظاهرات التي صاحبت تنصيب ترامب رئيساً عمت الولايات المتحدة، ومشكلات العنصرية تجاه السود عادت إلى الواجهة، وأصبحت تطالعنا بشكل كبير في الفترة الأخيرة، هذا بالإضافة إلى انتشار دعوات من ولايات كثيرة للانفصال عن الاتحاد الأميركي كولايات كاليفورنيا وتكساس حاذين حذو البريكسيت، وما حصل في حالة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، وكل هذا فضلاً عن المشكلات الاقتصادية، والرعاية الصحية، وارتفاع معدلات الجريمة، وهنا الحديث عن المشكلات الداخلية فقط. ولكي تظهر المشكلات الداخلية على السطح في الدولة، وتؤدي إلى إضعافها بشكل كبير كما في الحالة الأميركية، فإنها تحتاج إلى شرارة أولى قد تتمثل بكارثة بيئة أو طبيعية تضرب البلاد تشابه إعصار كاترينا عام 2005 أو أشد منه، أو في حالة أخرى قد يكون ركوداً اقتصادياً كبيراً هو مَن يفجر الأوضاع الداخلية، وقد يوازي ما حصل في الكساد الكبير عام 1929، وإن استطاعت أميركا في السابق التغلب على الأمرين بصعوبة وتجاوزهما، فإنها من المرجح في الفترة القادمة أنها لا تستطيع ذلك؛ لأنها استنفدت الكثير من طاقاتها مع مرور الوقت. وكما ذكرت في البداية عن خطر المشكلات الداخلية في انهيار الإمبراطوريات والدول العظمى، فإن المشكلات الداخلية لأميركا، ومنذ مدة، تفعل فعلها بهذه الدولة حتى يأتي الوقت المناسب ليصحو الشعب الأميركي على حقيقة رؤسائه وطبقته الحاكمة والمتحكمة بالأموال والاقتصاد، ويكتشف أن سبب مشكلاته ليس في مجموعة من المهاجرين البسطاء الذين لا ذنب لهم، وليس في جماعة أو دولة خارج أميركا، بل إن أصل المشكلة في هذه الطبقة الحاكمة وليس لأي سبب آخر، وما سيسبب صحوة الناس هو هذا الحدث الكبير الذي ذكرته اقتصادياً كان أو طبيعياً، ولكن المشكلة أن هذه الصحوة ربما ستكون متأخرة جداً. في النهاية، ترامب بالطبع لن يكون الرئيس الأخير لأميركا، ولكنه من جهة أخرى هو آخر رؤساء أميركا التي نعرفها، أميركا الدولة العظمى في العالم التي لا يشق لها غبار، أميركا الموحدة بولاياتها الخمسين، أميركا القطب الأوحد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فأميركا ترامب وما بعد ترامب مختلفة جداً جداً عن السابق. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.