×
محافظة المنطقة الشرقية

إيكوفيتش يرفع لياقة العنابي

صورة الخبر

هل اختفت العبودية للأبد عن عالم البشر.. أم اختفت أنماطاً وأشكالاً وتسربت سلوكاً وممارسة؟ وهل كانت العبودية فقط في استرقاق البشر وامتلاكهم وشرائهم وبيعهم مباشرة أم ظلت لها أشكال أخرى لا تقل وحشية وسوءاً؟.. استدعاء مذكرات عبد أميركي، لفريدريك دوجلاس في المقال السابق.. لم يكن مجرد استدعاء يوميات من وجد نفسه يعيش ظروف عبودية سيئة للغاية مع سادة جفاة غلاظ.. كان نشيدا متواصلا ومؤلما للحرية، التي أشعلت في نفس فريدريك التوق للخلاص.. حتى هرب للشمال في مطلع منتصف عقده الثاني، ليصبح فيما بعد من أبرز المناهضين للعبودية، التي كانت جاثمة على صدور الأفارقة في الجنوب الأميركي. الحديث بصدد تلك العاطفة المقتولة منذ المهد، والجهل والتجهيل المقصود، والانفصال بين روح الدين وسلوكيات ملاك العبيد المتدينين في الجنوب الأميركي.. من أجل قطع حبل السرة بين الفطرة ونداء الحرية.. إن الكثير من الناس يجهلون طبيعة العبودية، والممارسات البشعة التي تعرض لها العبيد طيلة ذلك التاريخ الأسود.. وفي هذا يقول ويليام جاريسون وهو يقدم تلك المذكرات إنهم سوف يشكون بقوة حين يقرأون أو يستمعون لأي حكاية عن فظاعات العبودية التي تقع على ضحاياها كل يوم. إنهم لا ينكرون أن العبيد يعتبرون متاعا، ولكن هذه الحقيقة المرعبة لا تثير في عقولهم أي فكرة عن الظلم أو الاضطهاد أو البربرية الوحشية. أخبرهم عن الاضطهادات والتجديع ووصم العبيد بالأختام، ومشاهد النجاسة والدم، ومحو كل ضوء أو معرفة.. ولسوف يغضبون بشدة من هذه المبالغات الكبرى، ومثل هذه الأخطاء بالجملة، وهذا الهجاء الشنيع لمزارعي الجنوب! كما لو كانت تلك الانتهاكات الذميمة ليست نتائج طبيعية لنظام العبودية! وكما لو كان أقل قسوة أن تنزل الكائن البشري إلى مستوى الأشياء مما لو جلدته بشدة، أو جوعته وعريته، أو كما لو كان الجلد والسلاسل وخرم الأصابع والهراوات، والكلاب الدموية والمراقبون والعسس لا غنى عنها جميعا لجعل العبد شيئا منحطا، ولحماية مضطهدي العبيد الغلاظ، أو كما لو كان إفناء الأسر، واتخاذ السريات، والزنا، وزنا المحارم، لن يكون موجودا ومتوفرا، حين تنتفي الحقوق الإنسانية، وأي حاجز يحمي الضحية من غضب المفسد، فحين تتسلط القوة المطلقة على الحياة والحرية لن تكون السلطة مدمرة فقط.... يأتي ملمح آخر أشار إليه فريدريك في مذكراته، هو يجسد تلك العلاقة بين الكنيسة والعبودية. أو لنقل حالة التدين التي تنتشر بين السادة ملاك العبيد في الجنوب الأميركي في تلك الفترة، وحرصهم على أداء تلك الشعائر والطقوس في أيام الأحاد.. وبين سلوكهم الفاجر والعنيف تجاه عبيدهم ومعاملتهم بكل درجات القسوة والفضاضة حتى لو أدى الأمر لجلدهم المستمر تحت أي ملمح للتقصير أو الخطأ.. بل وصل الأمر إلى حالات القتل بلا تردد. وبعد قراءة تلك المذكرات المؤلمة لمرحلة من عمر البشرية تجاوزت قرنا ونصف القرن، يأتي السؤال: هل اختفت العبودية عن عالم البشر.. أم اختفت أنماطا وأشكالا وتسربت سلوكا وممارسة؟ وهل كانت العبودية فقط في استرقاق للبشر وامتلاكهم وشرائهم وبيعهم مباشرة، أم ظلت لها أشكال أخرى لا تقل وحشية وسوءا.. وإذا كانت الحرية نقيض العبودية، وكرامة الإنسان وحقوقه نقيض سحقه وتبخيسه، وإذا كان رغيفه يقايض بصمته وإرغامه، وكانت حياته تقايض بموته.. فهل ثمة حرية؟ في هذا العالم الممتد من الماء للماء، سنجد أن العبودية اختفت إعلاناً وشكلا تاريخيا، ولكن ما زال بعضها مضمونا ينشر ظلاله على أفق عالم، مازال يعاني الويلات، والكوارث، والحروب، والمجاعات، والاضطهاد. مازال هذا الإنسان في مناطق كثيرة من عالم اليوم يعاني شكلا أو آخر من أشكال العبودية، التي رحلت باسمها القديم وأنماطها في التملك والسخرة والاستحواذ على البشر.. إلى عوالم تسحق الإنسان، وتهمش آدميته، وترديه في ويلات الفقر والمسغبة والاستغلال. وإذا كان الإنسان الأبيض في الغرب، قد اعتذر عن تاريخه الأسود تحت عناوين استعباد البشر، إلا أن حكوماته لم تتورع حتى اليوم عن تدمير الإنسان في مناطق أخرى تعاني من صراعات المصالح والنفوذ. وإذا كانت العبودية فيما مضى استرقاقا لأفراد أو مجموعات وتوظيفها في أعمال تدر على السيد الأبيض الأموال والثروة.. فإنها اليوم تبدو أيضا استرقاقا لشعوب بأكملها تحت عين وإدارة وتواطؤ الوكيل الذي خلف الاستعمار، فكان أسوأ الخلف، والأكثر انتهاكا لآدمية البشر.. فما حروب أفريقيا المدمرة ومجاعاتها، وهي قارة الثروات الخام، وما الصراع في المشرق العربي اليوم، وهي من أعظم المناطق ثراء واستقطابا وأهمية جغرافية.. وما تلك الآفات التي تأكل في رصيد الإنسان اليوم في المشرق والمغرب.. إلا فشل كبير لأنظمة جاءت تحت عناوين مقاومة المستعمر، فإذا هي أشد ضراوة وبؤسا.. مما صنع حالة فشل، وتردٍ، وإخفاق، ومظالم، وجور، وتدمير.. أكلت الأخضر واليابس، وأحالت الإنسان إلى شيء أقل من عبد، وأضعف من أمة..