كعادتها في كل عام، تستقبل برلين أكثر من 1500 مزارع ومنتج مواد غذائية وزراعية من كل أنحاء العالم من أجل عرض منتجاتهم، من لحوم وأسماك وأجبان ومعلبات على أنواعها، وهذه السنة كانت المجر ضيف المعرض الذي أُقيم في الفترة من 20 إلى 29 يناير (كانون الثاني). وإلى جانب العروض الزراعية تعقد حلقات مناقشة تتطرق إلى أهم المواضيع، منها أزمة الغذاء في العالم وتراجع المساحات الزراعية، خصوصًا في البلدان الفقيرة. وبلغت مساحة الأراضي الزراعية في العالم قرابة الـ5.6 مليار هكتار، وهو رقم قليل مقارنة بسكان الأرض، الذين يتجاوز عددهم اليوم 7 مليارات نسمة. وبناءً على بيانات منظمة الغذاء والزراعة العالمية (الفاو)، فإن كثيرًا من هذه المساحات المزروعة لا تعود منتجاتها بالفائدة على المزارعين أصحاب الأرض، وبالتحديد صغار المزارعين، بل هي تحت سيطرة نفوذ مصانع الأغذية العالمية العملاقة التي تستثمرها على أفضل وجه، مما يجعلها تسيطر أيضًا على أسعار منتجاتها، مما يقوي موقفها على حساب المستهلك، وترى المنظمة أن حل هذه الإشكاليات التي تتفاقم وتتسبب في المجاعات حول العالم، يجب أن يكون جذريًا وعلى مستوى عالمي وبإسهام كبار الدول. لكن المشكلة الأعمق أن حكومات كثير من هذه الدول إما شريكة أو داعمة للمصانع المستغلة للأراضي الزراعية، التي تشتري أراضي شاسعة للمتاجرة بمنتجاتها وطرحها بأسعار عالية، دون أن يولي أحدهم أي أهمية لأزمة الغذاء الحادة التي يعيشها العالم اليوم. هنا يُذكّر خبراء تغذية بوعود الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون بأن القرن الـ21 هو قرن التغلب على الجوع والفقر في العالم. الرجل أخفق بشدة في تحقيق ندائه، لأن الآليات اللازمة لمحاربة قلة الغذاء أو عدم عدالة توزيعه وتوفيره وسيطرة مؤسسات محددة على تدفق وأسعار السلع، غير متوفرة لدى الأمم المتحدة، فهي ليست مؤسسة ذات سلطة كي تطلق هذه العبارات التي كانت فارغة من كل محتوى، والدليل على ذلك تزايد عدد الجياع في العالم مع مطلع هذا القرن. بتقدير منظمة «الفاو» سوف يتجاوز عدد سكان العالم حتى عام 2050 تسعة مليارات نسمة، بينما كان العدد عام 1950 ثلاثة مليارات، مما يجعل الحاجة إلى مصادر لسد الجوع أكبر بكثير، لكن اليوم يبرز عنصر يسرق غذاء الإنسان وهو الوقود البديل (الإيثانول). من أجل سد حاجة الصناعات الكبيرة واستبدال طاقة نظيفة لا تنضب بالطاقة التقليدية، تلجأ شركات ضخمة إلى استئجار أراضٍ زراعية شاسعة في بلدان فقيرة من أجل زراعتها على سبيل المثال بالقمح والذرة والشمندر ومواد زراعية أخرى، ومن السكريات والنشا الموجودة فيها يتم إنتاج الإيثانول. وتبرر الشركات المنتجة هذه الخطوة بسعيها للمحافظة على البيئة من الغازات السامة المنبعثة من الوقود التقليدي. ومع استخدامها الأراضي الشاسعة لإنتاج الوقود البديل ارتفعت أسعار المواد الغذائية عند عرضها على المستهلكين، وهكذا تُزرع الأراضي كي يُحرق مُنتجها في محرك السيارة، بينما يموت الملايين جوعًا، وزادت المشكلة عمقًا مع تسابق بعض المزارعين الصغار لبيع أو تأجير أراضيهم لمنتجي الوقود الحيوي من أجل الكسب السريع. وهنا يشير تقرير لمنظمة الغذاء والزراعة العالمية (الفاو) إلى أن إنتاج الوقود البديل سوف يتضاعف حتى عام 2021، مما يربط الزراعة العالمية بشكل متزايد مع أسواق الطاقة، وهذا لا يقلل فقط من مساحة الأراضي المزروعة بالغذاء، بل سيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط، وينعكس على أسعار المواد الغذائية، ومع الوقت تتحول مثلاً زراعة قصب السكر والحبوب الخشنة لإنتاج الوقود البديل فقط. وفي هذا الصدد يشير تقرير مُشترك صادر عن «الفاو» ومنظمة التعاون والتنمية الدولية، إلى أنه تنبغي زيادة الإنتاج الزراعي في العالم خلال السنوات الـ40 المقبلة 60 في المائة، أي بواقع مليار طن من الحبوب و200 مليون طن من اللحوم سنويًا، لإطعام سكان الأرض، مما يعني ضغطًا كبيرًا على القطاع الزراعي في العالم، لأن المساحات الزراعية والمخصصة لتربية المواشي محدودة، وبالتالي فإن نمو الإنتاج المتوقع لهذا العقد سيكون 1.7 في المائة، أقل مما كان عليه في العقود السابقة، مما يعني عدم التمكن من رفع سقف الإنتاج، الذي هو العامل الحاسم للحد من ارتفاع الأسعار. وينظر معهد بحوث التأثيرات المناخية في مدينة بوتسدام الألمانية بريبة إلى التنافس من أجل زراعة أراضٍ خصيصًا لإنتاج الوقود البديل، وحذر في تقريره قبل فترة من هذا من التوسع غير المنضبط، لأن ذلك سيكون على حساب الطبيعة. ويرى المعهد أن نتيجة ما يسمى بتحرير السوق العالمية ستتمثل في زيادة المساحات المزروعة في المناطق الاستوائية، حيث تُقلع الأشجار في الغابات كما يحدث اليوم في غابات الأمازون لتحويلها إلى مساحات زراعية، وهذا سوف يكون له تأثير سلبي على المنتجات الزراعية ويعود بالضرر الكبير على البيئة، مثل ضرر الثقب الأوزوني، فالغازات المسببة للاحتباس الحراري سوف تزيد بنحو 15 في المائة، لذا يدعو المعهد لمعالجة قواعد التجارة العالمية، بالأخص فيما يتعلق بالزراعة، بهدف إنتاج الوقود البديل وحماية المناخ في المفاوضات الدولية. والمنافسة لا تقتصر على المصانع لإنتاج الوقود البديل، إذ لم يعد سرًا أن كثيرًا من البلدان الغنية اشترت أو استأجرت أراضي شاسعة لصالحها لقلة الأراضي الزراعية لديها، وتسخر اليد العاملة الرخيصة هناك من أجل زراعتها بمحاصيل معينة، إلا أن سكان البلد المضيف يصيبهم بعض الضرر، فهم لا يحصلون على حصة مما يزرعونه، بل تذهب المحاصيل بالكامل إلى المستأجر، في الوقت نفسه يلحق الضرر بالأرض لأنها تُزرع زراعة أحادية، ومع الوقت لا تعود صالحة بالشكل الطبيعي للزراعة، فيخسر المزارع أرضه، بينما يبحث المستأجر عن أرض أخرى كي ينتج منها ثم يفسدها، وهكذا دواليك، والزراعة الأحادية ألحقت الضرر بالفعل بنحو 10 في المائة من مساحة الأراضي في بلدان أفريقية مثل كينيا وغانا. ويوصف كثير من عقود الاستئجار بالصفقات المشبوهة، لأنها تتم عبر مسؤولين حكوميين كبار أو حكام البلد أنفسهم من أجل الكسب المادي الشخصي، دون إعطاء أهمية لحالة الأرض مستقبلاً. ويعتقد المزارع أنه سوف يكسب من هذا الصفقات، لكن في النهاية يصبح بلا أرض أو طعام، وينضم إلى قافلة الجياع في بلده، وتضطر حكومته إلى استيراد المواد الغذائية من الخارج بعد أن كانت تزرعها. ومن البلدان التي تُعقد معها هذه الاتفاقيات السودان وكينيا ومدغشقر وإثيوبيا وأوكرانيا وكمبوديا وباكستان ومصر، وتُزرع المساحات بشكل عام اليوم بالحنطة والذرة من أجل صناعة الوقود البديل. وقبل فترة بنت حكومة دولة قطر لكينيا ميناءً على المحيط الهادي وصلت تكاليفه إلى قرابة 3 مليارات دولار مقابل استغلال قطر لـ40 ألف هكتار زراعي، ولم يغب السودان ومصر عن نظر أغنياء العرب، فمؤسسة أبراج كابيتال المالية تزرع في السودان 30 ألف هكتار، وفي مصر نحو 324 ألف هكتار. وقامت كوريا الجنوبية بعقد اتفاقيات مع مدغشقر، لاستئجار أكثر من 30 ألف هكتار من الأراضي من أجل زراعتها بالأرز. وتزرع اليابان لحسابها في البرازيل نحو مائة ألف هكتار، ووقعت الصين عقودًا معها، لكنها تُرسل آلات وخبراء مقابل زراعة الأراضي بمزروعات يحتاجها الشعب الصيني، مثل الرز والصويا والذرة. وبعد اهتمام كبار المستثمرين في العالم بالنفط والغاز الروسيين تحولت أنظارهم أيضًا إلى الأراضي الزراعية الروسية، بالأخص بعد ارتفاع أسعار الحبوب في الأسواق العالمية الصيف الماضي، نتيجة تراجع مخزونها في بلدان اندلعت فيها أعمال شغب. * المضاربات في أسعار الغذاء لم يعد سرًا أن كثيرًا من المصارف والمؤسسات المالية العالمية حولت غذاء الفقراء إلى سلعة لها أسهم وأسعار يضاربون بها في أسواق البورصة، مما خفض حصة التجار التقليديين الذين يتاجرون بالقمح مثلاً من 88 في المائة عام 1996، إلى 35 في المائة عام 2008، وهذا يعني أن 53 في المائة من عقود شراء القمح يتم تداولها من قبل المضاربين الماليين. ومن المؤسسات التي كشفت منظمة أوكسفام عن دورها في المضاربات بالمواد الغذائية بورصة شيكاغو التجارية (سي بي أو تي)، وهي أهم سوق للأسهم الرئيسية في العالم للمنتجات الزراعية، ومن أبرز المؤسسات المالية المضاربة «غولدن ساكس»، ومصرف «بركليس» و«كوميرس بنك» الألماني، و«إليانز» للتأمينات، و«دويتش بنك» (المصرف الألماني)، و«جي بي مورغان»، و«مورغان ستانلي»، الذي استثمر وبشكل مركز بين عامي 2010 و2013 في أسواق السلع العالمية، وفي عام 2012 لوحده وصلت أرباحه من المضاربات في الغذاء إلى مليار دولار. وحاول «دويتشه بنك» الدفاع عن نفسه بعد حملة انتقادات حادة ضده في ألمانيا لتحوله إلى مضارب في مواد أساسية مثل القمح والكاكاو والنحاس والألمنيوم، مبررًا ذلك بأنه خطوة لمساعدة البلدان الفقيرة، وهو غير مستعد للانسحاب من سوق المضاربات. * الحروب سبب لفقدان الأراضي من مسببات انحصار المساحات المزروعة التي لا يجب إغفالها هي كوارث الحروب، حيث تبقى أراضٍ شاسعة من دون زراعة لسنوات طويلة، كما الأمر في العراق، فبسبب المعارك والصراعات الداخلية أُهملت مساحات زراعية شاسعة جدًا. وتسببت آلة الحرب في خسارة العراق ما لا يقل عن مليوني متر مربع من الأراضي، التي كانت من أفضل الأراضي الزراعية لوجود نهري دجلة والفرات. والحرب لا تقضي فقط على التربة الصالحة، بل على الخبرة الزراعية، ففي الوقت الحالي شحت العمالة الزراعية في العراق بشكل كبير، فكل مزارع سابق انضم إلى الطرف الموالي له وحمل سلاحًا وهجر الأرض، ومن أجل سد الثغرة استعانت حكومة بغداد كما سلطة الأكراد في شمال العراق بيد عاملة أجنبية، لكن هذا الحل لم يجدِ نفعًا، لأن العمال غير مستعدين للعمل في ظل المدافع، مما جعل الشعب العراقي بكل أطيافه يعتمد على المواد الغذائية المستوردة بعد أن كان بلدًا مصدرًا لها. والسبب الآخر لخسارة الأراضي الزراعية، الذي بدأ خبراء البيئة في التحدث عنه، هو أضرار الأسلحة البيولوجية التي تُستخدم خلال الحرب على تربة الأراضي الزراعية. بعد الحرب التي استمرت أكثر من 30 سنة في فيتنام واستخدم فيها الجيش الأميركي 35 مليون طن من الأسلحة، لم تخلف فقط قتلى أو معوقين أو مرضى أو ولادات مشوهة، بل أفسدت مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت في السابق صالحة للزراعة، خصوصًا زراعة الأرز. يثير النمو الشديد في عدد سكان الأرض القلق، فالمؤسسات العالمية تتوقع ارتفاع عدد سكان الأرض في عام 2050 إلى 9 مليارات نسمة، ففي كل دقيقة يولد 150 إنسانًا، مما يعني أن عدد سكان العالم يزيد كل يوم 22 ألف شخص، وأكثر من 80 مليون إنسان كل سنة، وهؤلاء بحاجة إلى مكان وطعام وشراب، فكيف سيتم إطعامهم؟ من وجهة نظر خبير الشؤون الزراعية كاميليو بولاك، فإن إنتاج كميات كافية من الطعام الصحي وبأسعار معقولة لـ9 مليارات نسمة هو أكبر تحدٍ للزراعة، وسوف يضطر المزارعون للتصدي لهذا التحدي، لأن السياسيين لا يضعون الأمر على قمة أولوياتهم، والتصدي يتم عبر التوعية بأهمية قطاع الزراعة، لأنه أهم رب عمل، وسوف تزداد أهميته في العالم خلال السنوات الأربعين المقبلة، فالإنتاج الزراعي يجب أن يتضاعف من أجل تأمين الإمدادات الغذائية للبشر، مما سيجعل الزراعة من أكثر المهن أهمية يومًا بعد يوم. وحسب بيانات منظمة الغذاء والزراعة العالمية، هناك ما يقرب من 1.3 مليار إنسان في العالم يعملون في قطاع الزراعة، أي نحو 40 في المائة من إجمالي العمالة في العالم، وفي أفريقيا وحدها يعمل في هذا القطاع 52 في المائة. الزراعة لم تستنفد بعد كل إمكانياتها الطبيعية، إلا أن مواصلة الاستفادة يجب أن تتوفر عبر الاستخدام الأمثل للتربة، أي عدم زراعة الأرض دائمًا بنوع واحد من المزروعات وتدريب المزارعين بشكل يمكنهم من تحسين نوعية المحاصيل التي تعود بالفائدة المادية الأفضل عليهم، مما يجنبهم الجوع وهجرة الأرض، لكن في الدرجة الأولى إقدام الحكومات والمؤسسات الإنمائية على المساعدة، وإلا فإن المساحات الصالحة للزراعة سوف تتراجع، ففي عام 1970 كانت مساحة الأراضي الصالحة للزراعة للفرد الواحد 0.3 هكتار، وبحلول عام 2050 من المتوقع أن تنقص إلى النصف، ولن تزيد على 0.15 هكتار للفرد. واليوم تمثل مساحة الأراضي الزراعية نحو 5.6 مليار هكتار، أي ما يقرب من 11 في المائة من سطح الأرض، إلا أن ما يقارب من 5 إلى 7 ملايين هكتار سنويًا منها يلحق به التملح أو التآكل أو الجفاف والتصحر أو تصلب التربة أو البناء بشكل عشوائي.