هو شاعر مغربي خط لقصيدته مسارا فريدا ومتميزا، وسط جغرافيا قصيدة النثر، التي عمل على تطويع جماليات جديدة داخلها، والرقي بدرجة لمعانها، ما جعله أحد المحسوبين على المساهمين الأساسيين في الحساسية الجديدة في القصيدة المعاصرة. حسن بولهويشات شاعر غير مهادن، يكسر الأنساق، ويهدم البنى التحتية المتواضع عليها، ليستثمر حطام الهامش في صياغة مقولته الشعرية، التي لاقت إقبالا وانتباها نقديا محمودا وغير مشوش عليه، في ظرف وجيز رغم عودته إلى الساحة الثقافية بعد انقطاع يربو عن عقد من الزمن، إلا أنها عودة لم يفقد معها حماس البدايات ولا تألقه السابق. في هذا الحوار يحدثنا عن وظيفة الشاعر وسط عالم لا شعر فيه، عن رؤيته للساحة الثقافية، ويطلعنا عن جانب أساسي من اشتغاله الذي خلف ويخلف منجزا شعريا زاخرا ينتظر أكثر من دراسة. قال حسن بولهويشات إن الحياة وليس غيرها هي النص الحقيقي للولوج إلى الكتابة، إن كان ثمّة باب ومدخل للكتابة. حياتي السابقة لم تكن سعيدة بالمرة. وطفولتي لم تكن بالشكل والمسار الجميل الذي أتمناه لأي طفلٍ في العالم. كبرتُ بلا هدايا وبلا أعياد ميلاد في حيّ هامشي مكتظ بالجريمة. وتحت سقف بيتٍ بلا كهرباء ولا ماء وبلا قنوات الصرف حتّى. أنام في مطبخ البيت مثل قطّ لاجئ وأفكّر أنّ الحياة جميلة في مكان ما. قضيتُ الأصياف متنقلاً بين أكثر من ورشة بناء وبين أكثر من قسوة. أحمل أكياس الاسمنت والرمل على ظهري الطري، وأحصي شرور الانسان في عالمٍ شبيه بلعبة قمار يديرها أحدهم بأصابع خبيثة. ولا دخلَ لله في هذه المسألة، لكن هناك دوماً من يرفع أنفه إلى السماء مثل خنزير ويشتم الله بلا حسابٍ . تفوّقت في دراستي وفي توفير مصروف الجيب، بالتوازي مع تفوقي، بميزة مشرفة جداً، في مراكمة ما يكفي من الألم وخدوشٍ في الأصابع لكتابة الشعر في سنّ مبكّرة. هل أنقذتني كتابات جبران الحالمة وقصائد الشّابي الرومانسية من التلاشي وفتحتْ مسارب الضوء في حياتي لدرجة كان ينتابني إحساسٌ أنّ هناك من ينتظرني خلف الباب بعلبة الشوكولاته في اليد؟ وهل أفادتني روحانيات ابن الفارض و”لزوميات” المعري، ونضجتُ على نارٍ سريعة بدل نارٍ هادئة كما يقول كثيرون؟ وهل تلألأت دمعات مطرٍ خفيفة في محاجري وداخت الأرض تحت أقدامي، وأنا أصغي لموّال الجدات المتساقط من أعلى الهضبة وجنب الوادي حدّ أن الغنائية توّفرت بسخاءٍ في قصائدي الأولى؟ لا أعرف الاجابة. فهناك أكثر من نصّ مقروء ومسموع. وتبقى الحياة بتلاوينها وتجاربها هي النص الحقيقي والمتن الذي لا يعلو فوقه متنٌ الذي ورّطني في الشعر. وأضاف: ليست لديّ طقوس محدّدة ونهائية بخصوص الكتابة. أكتب في ساعةٍ متأخرة من الليل كما أفعل الآن، مثلما أكتب في المقهى وسط الضجيج ويسرّني أن أشبّه نفسي بالشاعر محمد خير الدين في هذه النقطة. فضلاً على أنّني أحبّ ليالي الشتاء الطويلة وأجدها مناسبة لتركيبتي النفسية وللدخول في نزالٍ مفتوح مع القصيدة. وبالمقابل أتضايق من فصل الصيف ومن الحرارة ومن رائحة الآباط في الأماكن العمومية المغلقة، فأشعر أنّ الهواء يصل إلى صدري على متن جرّار ثقيل، وينتابني إحساسٌ عارم بالظلم والتيه ولا أفعل أيّ شيء. والكتابة عموماً مرضٌ عضال أتعايش معه حسب تقلب المناخ والمزاج. مرّة أستلقي على ظهري ومرّة على جانبي الأيسر. المهم أن يصل الهواء إلى صدري وتخرج القصيدة خفيفة بلا مغصّ في المخيلة. وعن وظيفة الشاعر اليوم قال حسن بولهويشات: تتغير وتتباين هذه الوظيفة من شاعرٍ لآخر، كلٌ حسب منظوره الشخصي للشعر ورؤيته للحياة والعالم والأشياء. ونكاد نتّفق جميعاً أنّ وظيفة الشاعر تتمثّل في الانتصار للجمال وللقيّم النبيلة وتقديم حلول وجدانية كما هو الحال مع العلوم الحقة التي تقدّم حلولا تجريبية. لكن هذا لا يكفي، لا بدّ للشاعر أن ينحاز لهموم الشعب ولقضايا الانسان الكبرى خصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد فيها المنطقة العربية، شمال افريقيا والشرق الأوسط بالتحديد، منعطفا ايجابياً وارتفاعا في سومة الاحتجاجات الشعبية من أجل الحرية والكرامة. وغير مقبول من الشاعر أن يتقوقع على نفسه وفي قصيدته، ويكتب عن العطر الفوّاح ويشحذ لغته في وصف تضاريس صاحبة العطر بمبرّر الفن من أجل الفن. أكيدٌ، أنّ وظيفة الشاعر ليست رسمية، ولا بدّ له أن يأخذ مسافة محترمة من السلطة، وأن ينأى بنفسه عن التدجين. أعرف الكثير من الأسماء جاءت إلى القصيدة بأضلاعٍ مكتملة وبلا عثرات البداية، وكسبت احترامَ وإعجاب قرّاء الشعر، غير أنها تورّطت في الشأن العام، حيث هناك من استوزر لفترة طويلة. وهناك من تقلّد مناصب مهمة أو دخل ديوان الوزارة ومكثَ فيه مثل قطّ البيت ولم يخرج. نترفّع هنا عن ذكر الأسماء، لكنه كرمٌ كثير أن نسمّي ما يكتبه هؤلاء الآن شعراً. برسيماً وشعيراً ممكن. أقصد عندما تتغير القناعات وتتلّون المبادئ تخبو جمرة الشعر وتتكلّس اللغة، ولا أحد سيقرأ لك عزيزي الشاعر. وعن أسباب انقطاع الشاعر سنوات عن الكتابة قال: العالم قاسٍ، ويصعب تحمّله طوال مراحل العمر بنفس المزاج وبنفس الأعصاب. أنا شخص مزاجي ومتقلب بمقياس الزاوية المستقيمة. وحياتي كانت دوماً، وما تزال، مثل إبرة الميزان، مرّة على اليمين ومرّة على اليسار. وفي تشبيه آخر مثل عكّاز أعمى، مرّة في النجاسة ومرة في الطهر. لكنّني نظيفٌ وأنفاسي عطرة وبإمكانك أن تقترب مني وتعانقني من دون أن تتأفف. أعني قناعاتي الشخصية ومبادئي التي أحرص عليها أكثر من أيّ شيء آخر. ولايهم أن يتلاعب شيطانٌ خبيث بحياتي. ويسرّني أن يكون شيطان الشعر هو من يتحكم في هذا المركب السكران. نعم، عدد الذين تسرّب اليهم يأس فظيع وتوقفوا عن الكتابة الشعرية من جيل التسعينيات بالمغرب على سبيل المثال، وهو الجيل الأكثر ديناميكية في الشعر المغربي المعاصر، أكثر من الذين قاوموا واستمروا. شخصياً كنتُ براغماتياً وانتهازياً مع نفسي، حيث توقفت عن الكتابة حين ساءت أموري الشخصية وعدتُ حين توّفر لدي الشرط الأدنى للكتابة. لا أريد أن أتكلّم عن هذه المسألة أكثر مما تستحق لأنّ اسمي بالكاد كان معروفاً في تلك الفترة. ومازلت أتعلم من الكبار وأستفيد من تجاربهم. وأرعى احساساً عارماً بأنّني سأكتب أشياء جميلة مع مرور الوقت. ويضيف عن قصيدة النثر: لقد راكمتْ قصيدة النثر من التوهّج والإيجاز ما أهّلها لانتزاع اعترافٍ نقدي مهم، وذلك بعد سجالٍ طويلٍ بين سدنة الماضي وأنصار هذا الشكل الشعري الجديد. والمطلوب في هذه المرحلة هو التمييز بين قصيدة النثر وبين القطع النثرية المرصوصة كلماتها على شكل أدراج العمارات والتي يكتبها رجال السياسة وسيّدات البيوت فوق الفوتيه قبل النوم من باب التسلية والتطاول على حقوق الآخرين. وبمستطاع النقاد المتخصّصين أن يتدخّلوا على الخط ويضيفوا أشياء أخرى نيابةُ عنّي. وعن رؤيته للتجارب الشابة اليوم، التي تكتب هذه القصيدة وتربط نشرها بالأنترنت؟ وهل هذا الفضاء أضاف الكثير للأدب، أم كان وبالا عليه؟ قال الشاعر المغربي: بديهي، أنّ المجلات الثقافية باكراهاتها الماديّة وظهورها واختفائها حسب ميزان حرارة الأوطان لا تكفي بالمرّة لتطوير الشّعر. وهذا ما كشفت عنه التجربة طوال عقود من الزمن قبل الثورة المعلوماتية. الآن وبفضل وجود مجلّات ومواقع الكترونية تعنى بالشعر، اختفى نهائيا الشاعر الذي طالما سمعناه يشتكي من جمارك الثقافة ومن صعوبة إيصال صوته إلى عموم القرّاء بسبب وجود منابر تحتكم لمزاج الصداقة والزبونية أكثر مما تنتصر لجودة النصوص وفرادتها حتّى تسرّب يأس فظيع إلى كثيرين وتوقفوا عن الكتابة بالمرّة، كما أسلفتُ القول، ومن باب ردّ الجميل، وجبَ أن نصفق لمجهود هذه المجلات الإلكترونية. ونشكر “الفايسبوك” على ديمقراطيته العالية منوّهين برئيس تحرير متفهّم اسمه مارك. في حالة المغرب ظهر جيل جديد من “شعراء الفايسبوك”، وهي التسمية التي ظهروا بها في عدة ملفات ثقافية. وتمّ الاحتفاء بهم كأصوات شعرية جادّة ومختلفة وجدتْ ضالتها في مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما عاشت تجربة النشر الورقي لسنوات عدّة. وأغلب هؤلاء الشّعراء بلا ديوان شعري منشور لكن يصعب، بقوّة قصائدهم، تجاهلهم في انطولوجيا الشعر المغربي المعاصر. وتسمية “شعراء الفايسبوك” تُميّزهم وتمنح لهم العلامة الممتازة، ولا تشمت فيهم كما قد يعتقد البعض. وعن واقع المشهد الثقافي المغربي والشّعري بالخصوص قال حسن بولهويشات: الذين يتعاطون الثقافة بمختلف أجناسها في المغرب أكثر من الذين يتعاطون الحشيش ويتاجرون في العقار. وعدد شعراء وشاعرات المغرب يضاهي عدد عسكر الملك. كما نسجّل باعتزازٍ ارتفاع عدد الاصدارات الشعرية في السنوات الأخيرة وحضور القصيدة المغربية في جرائد ومجلات أكثر مقروئية وتداولاً. غير أنّ المشكلة تبدأ من المؤسسات الثقافية ذات البنية الفولاذية. والتي تحتاج إلى من ينسفها بالديناميت حتّى تنتبه. ولديّ يقين قاطع أن القيّمين على هذه المؤسسات يشتغلون بسوء نيّة وبصفاقة مبالغ فيها. فيما أرقام حصيلة الأنشطة والمشاريع الثقافية التي تقدّمها سنوياً هذه المؤسسات مغشوشة ومنفوخ في أردافها بالسيليكون. ومن الحماقة وعمى البصيرة أن تستمر مافيا الثقافة في الحديث عن بداية الموسم الثقافي ونهايته وتعدّ ملفات بهذا الخصوص كما لو أنّ الثقافة قصعة كسكسٍ ساخنة نتذكّرها بأصابعنا الطويلة وبالملاعق يوم جمعة ونهجرها طوال الأسبوع. واقع مؤسساتي مأزوم وأسود من جبين الموت، يتكبد تبعاته المشتغلون بالثقافة من شعراء وكتّاب وتشكيليين, وأستغرب أن يحافظ بعض هؤلاء على هدوئهم (ورزانتهم؟) حين يستدعي الأمر الحديث عن هذه الأمور. لا أريد أن أشبّههم بأولئك المواطنين البؤساء الذين يموتون بالتقسيط في أعالي الجبال وعلى أطراف المداشر وفي غياب تام لشروط الحياة، وحتى اذا زارتهم الصحافة أو وجدوا من يضع الميكروفون أمامهم ويمنحهم فرصة العمر للتعبير عن مشاكلهم، تحوّلوا بقدرة قادرٍ إلى مدّاحين للسلطة ولرموز الفساد المحلي والوطني. وربما تفوّقوا في أساليب المديح على كلّ ما جادت به قريحة محمد الحلوي وادريس الجاي في حضرة الملك الراحل الحسن الثاني. أتجنّب أن أقف طويلا عند هذه الصورة، ولكنني وجدت أطراف التشبيه قريبة جداً حدّ التناطح. وهل ضروري أن نهرّب كتبنا ونصوصنا خارج الوطن ونحصد جوائز البلدان البعيدة كي ينتبه لنا أهل الدار؟ وهل قدر الشاعر في هذه البقعة الأرضية أن تُصادر حريته وكرامته. وحتّى اذا تقدّم به العمر وتكالبت عليه الأمراض من كلّ عضوٍ ومفصل وتعذر عليه أن يجد تكاليف العلاج وثمن الدواء، وجد من يلتقط له صورة ويعمّمها على وسائل الاعلام. وماذا بعد؟ يموت الشاعر وحيداً في مستشفى حكومي ردئ أو في بيت العائلة في أحسن الحالات. ويصدر الاتحاد الفلاني أو البيت الثقافي الفلاني نعياً في أربعة أسطر. النعي الذي تقرأه مذيعة التلفزيون الرسمي بأسارير طلقة وخدود حمراء مثل الطماطم. شخصيا لستُ من هواة المسرحيات السخيفة. ولا أتمنّى لنفسي ولغيري هذه النهاية الحزينة. حاليا، أنا متفرّغ للكتابة ولستُ متزوجاً وليس لديّ أولاد. لست متحزّباً ولا مسجّلا في لوائح الانتخابات حتّى. لستُ مسؤولا في أية مؤسسة ثقافية ولا مشاركاً في أية مهزلة جماعية. أنا عضو مهم داخل نفسي ورئيس شرفي لبيت العائلة. وهذه شروط إضافية لأكتب قصائدي ومقالاتي بكلّ حرية وأدسّ في تجاويفها مقادير الحرارة والسخرية التي أريد من دون أجد من يرفع سمّاعة الهاتف ليعاتبني أو يأخذ كلمة في الجمع العام الفلاني ليجلد ظهري. عندما تتوفر لديك الحرية ويسعفك الوقت، بإمكانك أن تكتب وتنجز مشاريع كثيرة في ظرف وجيزٍ.