عندما يرحل القائد أو الرمز وحتى المشاهير عن الدنيا تتداعى الجماهير لتقديم واجب العزاء كما يحدث في كل بلاد الدنيا، واليوم يضاف إلى ذلك ما باتت تزدحم به وسائل التواصل والإعلام من تعليقات روادها عن مشاعرهم وقناعاتهم وآرائهم في شأن المتوفى مع ترقب لمراسيم جنازته الحاشدة. لكن كيف يبدو الأمر عندما يحل البلاء بالنجم أو بالشخصية المجتمعية نفسها، حين يفقد المشهور أغلى أحبابه فجأةً وبحادث أليم، فإن الناس في هذه الحالة سيراقبون ردة فعله وكيفية تعاطيه مع مآسيه جزعاً أو صبراً وما بينهما ؟ أظن أن معظمنا سمع بما ألم بالداعية الدكتور سلمان العودة أخيراً، وقد كان في اسطنبول وقت وقوع الحادث المروري الذي أودى بحياة زوجته وابنه وابنة خالتهم، بينما أدخل ابنه الآخر وابنته المستشفى للعلاج من إصاباتهما البالغة. منذ اللحظة الأولى لإبلاغه الخبر عن طريق رفيق دربه الشيخ عبدالوهاب الطريري، قدّم الشيخ سلمان نموذجاً يحتذى لثبات المؤمن المحتسب، وبتسديد من الله سبحانه وتعالى حوّل الرجل فاجعته إلى مدرسة من الرضا تتدفق منها العبر. اتجه الدكتور العودة إلى المطار عائداً إلى بلده، وحيث إن للشهرة الطاغية تبعات (11 مليون متابع على حساب تويتر)، وفي صالة المغادرة تقاطر الناس ومن كل الجنسيات وبين زحام المسافرين عليه هذا يعانقه وذاك يرجوه أخذ صورة (سيلفي) وذلك يشكره ويدعو له ورابع عنده استفسار فقهي عاجل وخامس يلح بطلب رقمه الخاص وأولئك يلوحون له بالتحية عن بُعد.. والشيخ في بلائه يبتسم لهم ويرحب بهم ويلبي طلباتهم، والله وحده الأعلم بأحزانه الدفينة المتدفقة بين جوانحه. استمر الشيخ بعد الحادث ينثر دروسه حالاً ومقالاً، فكم كانت كلماته عن أهله معبرة جلت لنا معاني الوفاء في أسمى درجاتها وأخجلت الكثيرين منا لتقصيرهم بحق بيوتهم وأرحامهم، بل وأيقظت قلوبا لطالما أشغلتها مكابدات الحياة عن أقرب الناس أمهات وآباء وزوجات وأبناء. تكلم الشيخ عن «لغز الموت» الذي حير الإنسانية، فكان شرحه المنبثق من التوحيد وافيا كافيا شافيا بلا فلسفة ولا تعقيد. أما أهم الدروس الاجتماعية التي ربما صارت حديث الداخل السعودي وخارجه، هو ذاك الحجم الكبير للتفاعل التراحمي والإنساني الواسع مع مصاب الداعية. فقد توالت التعازي والمواساة على المكلوم من جميع شرائح ومكونات المجتمع، ابتداءً بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وولي عهده سمو الأمير محمد بن نايف وولي ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان، إضافة للمفتي العام وأعضاء هيئة كبار العلماء وكثير من الأمراء ورجال الدولة وأمراء القبائل ووجهاء المجتمع. كما لفت انتباهي وانتباه آخرين أن جمعاً ليس بالقليل من مخالفي الدكتور سلمان العودة فكرا وتوجها، بل وكانت لبعضهم معه نقائض ومساجلات معلنة، عبروا عن مشاعر راقية ومواقف نبيلة في مواساته. حتى لو لم يكن الخلاف قد حسم والخصومة ما زالت مستمرة، فإن المروءة والشهامة ألزمت أصحابها التسامي على الخلاف، والأجمل أن منهم من (داس) على خصومة الماضي وحساباته، وجعل من الحدث صفحة جديدة مشرقة، إن من رصد ولاحظ هذا التفاعل بحجمه وتنوعه يكاد يقول: كأن السعودية كلها في عزاء سلمان ! مما كان له بالغ الأثر على جبر خاطر الشيخ سلمان وسلوة قلبه، فلخص ذلك بتغريدته الذائعة: «مليكنا المبجل، أمراؤنا الكرام، مشايخي، أصدقائي، كلماتكم وحضوركم ودعاؤكم سلوة لقلبي، اللهم تقبل منهم، #هيا_السياري، #هشام_العودة، #أسماء_الشعلان». وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مجتمعاتنا تأسست على روابط تراحمية متينة ومتجذرة، وأن قيمنا هي الأبقى والأقدر على إعادة التوازن الذي أفقدتنا إياه التجاذبات والصراعات المقيتة، ومؤشر قوي على إمكانية ترميم العلاقات المتصدعة وسهولة إحياء ثقافة السلم الاجتماعي لو توافق عليه الرموز المؤثرة وفعّلوه -ليس فقط وقت المصائب - بل بالمبادرة الدائمة. كنت بجوار الشيخ سلمان بعد انتهاء أيام العزاء والناس والوفود لا تنقطع عن بيته وهاتفه لا يسكت، فأدركت اتصال الدكتور عبدالله النفيسي من الكويت به، وبعده اتصال من السيد محسن الأحمر نائب رئيس الجمهورية اليمنية، وقبل ذلك وبعده اتصالات من زعماء دول ومسؤولين ممن لم يشاركوا في هذا العزاء. أما الجمعيات والمراكز والكتل من خارج المملكة، فشاركت وبادرت بالاتصال أو بإرسال من يمثلها فكان صدى هذه المشاركات فاعلا ومؤثرا. هل يمكن أن يكون هذا الصدى الإيجابي لولا أن القلوب أجمعت على حب هذا العالم الإصلاحي والاعتراف بأثره الدعوي في حياة المسلمين المعاصرين. قلت لمن حولي إن ما كشفته مصيبة سلمان العودة في أهله من معادن الناس وأخلاقياتهم ذكرني بما كتبه الأديب الكبير أحمد أمين في كتابه «حياتي» حينما تحدث عن فقده لنور عينيه قرابة شهرين في تعبير مفعم بمشاعر الفرح والأسى والانقباض والانبساط حيث تتجدد وتتعدد الصور الإنسانية عند كل مصاب. mh-awadi@