مكتب الرياض سفراء في الأيام الخوالي كانت الإذاعة السعودية تقدم برنامجا يبعث من خلاله الطالب المبتعث رسالة إلى أهله وذويه، يخبرهم بأنه بخير ومازال في دراسته ثم يختم حديثه بالتعبير عن معاناته المؤلمة مع الغربة. تسمع أصواتهم تختلط بأصداء كأنك تسمع أصواتا صادرة من براميل. كنا أطفالا لا نعي معنى الابتعاث، ولا معنى أن يكون الإنسان في غربة. تسم نبراتهم حرقة فتكوي أفئدتنا فندعو لهم في صلواتنا بأن يفك الله غربتهم، وأن يعيدهم إلى وطنهم سالمين غانمين. مضت السنون وعادوا، لوحظ أن كل من عاد لم يمكث إلا قليلا، ثم عاد يقاتل في كل دائرة وعند كل واسطة للعودة إلى الغربة مرة أخرى. من أنهى البكالوريوس قاتل للحصول على الماجستير في الغربة، ومَن عاد بالماجستير قاتل للتضحية بدفء الوطن والبقاء أربع سنوات أخرى لكي يحضر الدكتوراه، ومن أنهى الدكتوراه قاتل حتى قدر الله له أن يقضي سنة التفرغ في الغربة متحملا مشقة البعد عن الوطن. بل إن معظمهم من شدة شغفه بالعلم، ورغبته في التضحية من أجل الوطن مطط بقاءه في الغربة بكل أشكال التمطيط المتوفرة في نظام الابتعاث، وأضاف عليها ما تستطيع الوساطات تمطيطه. يبدو أن الإحساس بالغربة انحدر إلى الجيل الجديد. كثير من المبتعثين اليوم ما انفكوا يعانون ويشتكون من ألم الفراق، وصقيع الغربة والإحساس الممض في البقاء بعيدا عن دفء الوطن وحنانه. يا لها من روح وطنية سامية لكنها مع الأسف ستؤثر على تحصيلهم. لا يمكن لطالب أن يكتسب العلم إذا واجه معاناة بحجم معاناة الغربة وآلام البعاد. لا يعرف كثير من المسؤولين في التعليم العالي هذه المعاناة لأنهم لم يكتووا بنارها، أو أن نارها التي اكتووا بها يوما قد أحالها الزمن إلى رماد. حان الوقت أن تنصف وتصنف وزارة التعليم قائمة تضم كل من اشتكى من الغربة من الطلبة المبتعثين، أو ذكرها ضمن أي من شكاواه الأخرى في مسألة الابتعاث يحجز له في أول طائرة متجهة للمملكة، وتعطي بعثته لطالب لا تؤلمه الغربة أو تكويه. ثم تلزم الجامعات السعودية باستقبال المكتوين بالغربة، وإلحاقهم في تخصصاتهم في الداخل. وأن تتعهد الوزارة أن تضمن لهم نفس الامتيازات التي يحصل عليها طلبة الجامعات السعودية. إلى متى نترك أبناءنا في عذاب الغربة ونحن نتفرج. ليس من العدل تركهم هناك يشاهدون زملاءهم في الجامعات السعودية يرفلون في دفء الوطن، وهم قابعون خلف أمواج الأطلسي الهادرة يرددون (أسعفيني يا دموعي)..