توسيعُ دلالة اللغة بكل ما هو إيحائيٌّ مَطْلَبٌ جماليٌّ لا يَسْتنكف عنه كلُّ غيور على الحقائق من جهة الفكر والعلم.. ولا سيما الغَيرة التاريخية على الحقائق في تراث الأمة.. إلا أن الترحيب بهذا المطلب الإيحائي الجمالي لا يَعْني أن نُغْبن في عقولنا ووجداننا وتجربتنا فنقبل دعوى: أن اللغة المأثورة التي هي من آيات الله في اختلاف ألسنتنا فَقدتْ قيمتها.. أي في الدلالة على الأشياء؛ لأن هذا خنوع عقلي ذليل لاسترحالِ الحماسِ لِـمطلب جديد ذي خصوصية يُـخَدِّرنا به المُخرِّبون؛ فَنُسْقِط بالخصوصيِّ الجماليِّ الكيانَ العموميَّ الشامل، وهو دلالة اللغة المأثورة التي هي ضرورةُ بيانٍ، ومَطْلَبُ استيعاب؛ فلا بُدَّ أولاً من التفريق بين لغة الاستِيحاء ولغة الاستيعاب، ولا بد ثانياً من تذكُّرِ خصِّيصة البيانِ في الأحياء العاقلة في تقسيم العلماء أقسام البيان كالإشارة وإيحاء الأصوات الطبيعية، وأن تجارِب البشر لم تجد من أقسام البيان ما يستوعِب التعبير عن الفكر والوجدان والعلم غيرَ اللغة المأثورة؛ وهذا ما سأتكفَّل بإظهاره بعد قليل إن شاء الله.. ومَن غفل عن التفريق بين اللغتين بمُقْتضَى مطالبهما سهل عليه الانمياع مع المغالطات، وأذكر على سبيل المثال قولَ بعض المُنظِّرين في الأدب العالمي، وهم رُوَّادٌ لأصواتهم رنينٌ عند أدباء العالم؛ وذلك هو (هنجلف) الذي قال في سياق كلامه عن (مسرح اللامعقول): إن باعث اللامعقول هو معاناة اللغة في فُقدانِ قيمتها؛ ولهذا فلا مجال للمُحاورة، بل يُؤخذ من اللغة مصطلحاتٌ تقريبيةٌ لا ينتج عنها ساحاتُ قتال!!.. ولا بد من الاعتماد على الوهم والحلم وَرَفْض المُحاورة الواعية [انظر هنجلف ضمن (مصطلحات النقد) عن أدب اللامعقول ص 31-32، 33، 41، 178بترجمة الدكتور عبدالواحد لؤلؤة].. ومِن المضحك المبكي أنهم اعتمدوا على ما لا يصطفي الغربالُ منه شيئاً كالحلم والوهم، ورفضوا المحاورة الواعية.. أي محاورةَ العقل الإنساني المُشترك بمصادره الحسية والعلمية - وهم يعلمون أن لا تواصلَ إلا بذلك -، وإذا بهم في أسرع من كرَّة الطرف يتَّخذون لغة الحوار العقلي المُصطنعِ بالتضليل أداةً لهم على الاستدلال في ميوعة اللغة وتلك الدعوى كِذْبة عارية؛ لأن ضمير (أنا) مثلاً في اعتقادهم رَمْزٌ من الرموز التي يستحيل القبض عليها؛ لأنها تتبدل في كل لحظة؟!. قال أبو عبدالرحمن: هذا إيجاز مضغوط لقليل من هَذْر أدب اللامعقول لا تَتَّسِعُ سبتيتي لمُناقشة أكثرَ منه، وإنني لأجدُ أوَّل تضليل مِن خَلْطِ الأوراق في اعتقاد أن (لغة الاستيحاء) و(لغةالاستيعاب) غير مُتعايشتين معاً، وأنه لا بد أن تكون (لغة الإيحاء) هي البديل، ولا بد من إلغاء (لغة الاستيعاب)؛ فهذا دَفْع للأعمى أن يسير حافياً في المجهول من الغابات والوهاد والجحور والأشواك والصخور.. إلخ.. إلخ، وهو معاكسة للطبيعة.. والطبيعة لا تعطيك غير ما فيها، بل لكل من اللغتين وظيفة؛ فما تريد أن تُوَصِّله إلى غيرك من معارِفك وتجارِبك وتصوُّراتك وأحكامك: لا يكون إلا بلغة الاستيعاب، وهي معاني المفردات والصيغ (وهي التي يسمونها لغةَ القاموس) بعد أن تُـحصيَها كتابةً أو في الذهن باستقصاء دقيق؛ لتعرف المعنى المُتَعَيِّن في كل مفردة، وفي كل صيغة، وفي كل حرفٍ من حروف المعاني عندما يتركَّب الكلام من جملة أو جُملٍ مفيدة.. وهذه اللغة من شأنها، وفطرةِ الله التي فطرها عليها (مع وجود التغاير بين لغة ولغة في سعة الشمول ) : أن تكون مستوعبةً التعبيرَ عن كل ما علمه الفرد، وعن كل ما يستجد العلمُ به إذا عَلِمه؛ وليس ذلك حتماً بلغة الإيحاء الموجزة وإن كان هذا الإيحاء الموجز كثيراً في اللغة الجمالية كلغة العرب، ولكنَّ ذلك لا يعني الإطنابَ، والمبالغة في البيان إلا عند الضرورة بالتعريف الذي يتَقَصَّى ما هو مُتَصَوَّر في ذهن المتحدِّث أو الكاتب.. وبكثرة الأوصاف المطابقة والتشبيهات المقارِبة.. وبتجزئة الكلام إلى فقرات، ومسائِلَ، وفصولٍ، وأبواب؛ ليكون تسَلسُلُ الجزئيات مُنْتَظِماً فكرياً.. وكم من مسألةٍ تكون نتيجة الحُكْمِ فيها أقلَّ من سطر، ولا تأخذ مكانها من اليقين أو الرجحان إلا بصفحات كثيرة أو جزءٍ صغير، أو كتابٍ ضخم، بل بعضها يحتاج إلى مجلدات كمسألة الإيمان والإلحاد؛ لأنك لن تتفرَّغ لتقرير براهين الإيمان وحسب، بل ستضطرُّ إلى طرْدِ الكلبِ إلى بيت أهله؛ فتسرح في ملاحقة شُبَهِ وافتراءات وتناسي الملحدِ وتغييبَه ما جحده من الحقائق؛ ولهذا فكل شبهة تحدُثُ تحتاج إلى أضعافها من السطور.. ولولا ما أسلفته من سعة وشمول لغة الاستيعاب لما بقي لنا شيئ من علوم الأوَّلين والآخِرِين المُدَوَّنة في الكتب تنصيصاً؛ فاللغة كافية الدلالة في مفرداتها، مُتَعَيِّنَةُ المراد في تركيب الكلام.. وهي تكون أكثرَ سعةٍ عندما تتكوَّن الدلالاتلاستنباطية من السياق معهوداً وقرائن وتضمُّناً ولزوماً ودلالةَ تصوير من جمل مفيدة كجناح الذُّل، وكون النساء لباساً، ودلالة صفوان عليه تراب.. إلخ.. ثم تكون أكثرَ سعةٍ عندما تنفث المُغالطاتُ الشُّبَهَ التضليلية، أو الحاصلة عن غير قصد، بل لسوء فهم، أو قصور إدراك؛ فههنا تنتقل اللغة من رحاب التأصيل والتقرير الكريمة، إلى رحاب أوسع ولكنها مظلمة؛ فيلجها المفكر ومعه ضياءُ الفكرِ وسعةُ اللغة في انتقاله من التقرير إلى الدَّفْع وتزييف الأباطيل.. والجمالُ الإيحائي مطلبٌ في لغة الاستيحاء بموازين البلاغة في تركيب الكلام، وقد يرغب عنها الكاتب ويرى أن المباشرة هي الأجملُ ما ظلَّ المُتلقِّي محتاجاً إلى فهمٍ مُبسَّط؛ إذْ كان يُعَكِّر على فهْمه ما لا يقدر عليه إحساسُه الجمالي؛ لأن الغرض ههنا التفهيم لا التجنيح.. ولغة الاستيحاء الجمالية تريد تَلَقِّي الدلالة بإيحاء وجيز أو مسهب لا يتلقَّاه مباشرةً من المأثور اللغوي في نفسه، بل يريد سعةً عقلية من عطاء الفكر في دِقَّة الاستنباط من الكلام المُركَّب، وسعةً في الخيال بأن يستدِرَّ خصوبتَه في صورٍ جديدة من الأعيان الحسية المنثورة في الكون الفسيح.. مع رهافة حِسٍّ وجداني مِن لذائذ الجمال؛ فيلتقط الدلالة غير المباشرة لغةَ بِمَطْلَبَيْ الفكر والوجدان؛ وبيان ذلك أن معاني المفردات والصيغ ودلالة حروف المعاني المستقرأة من كلام أهل اللغة المُرَكَّبة محصورة لا تقبل الإضافة أو الإسقاط، وهي واسعة بالنسبة للدلالة في الكلام المركَّب؛ لأن المراد قد يتعيَّن من معنى واحد أو أكثر، وقد يشمل جميع المعاني بشرط أن لا يوجد تناقض أو جمعٌ بين ضِدَّين.. والكلام المركَّب محصور الدلالة والهيئة أيضاً من جهة النحو، والحكم فيه كالحكم في معاني المفردة.. وأما دلالة الكلام المركَّب بعد تحقُّق الشرط اللغوي والنحوي فهي عمل عقلي لا علاقة له بكون دلالة اللغة والنحو محصورة في زعمهم أن اللغة تُعاني من فقد قيمتِها من جهة سعة وثباتِ دلالتها، وهكذا عمل الكاتب العربي في تأليفه كلاماً مُرَكباً بشرط أن يكون الكلام عربياً لغة ونحواً.. والسعةُ ههنا والتعيَّنُ إنما هما للفكر الدقيق عِلْميّْاً من جهة الاستنباط، ولخصوبةِ الخيال من جهة ثراء الإبداع.. وما دام الكلام المُرَكب عملاً عقلياً لا نقلياً فدعاوَى ضيق اللغة وعدم ثبات الدلالةِ على مُرادٍ مُتَعَيِّنٍ غير صحيحة، بل هذان العيبان يتَحَمَّلُهمالكاتب والمتلقِّي كُلٌّ حسب مواهبه فكراً وخيالاً وحِسّْاً جمالياً، وأضربُ المثال بما أشرت إليه كثيراً عن سعة التعبير بِسعة الفكر في مناحي الاستنباط، وهو نَثْرُ أعيانٍ من المحسوسات في ظرفين مكانيين وزمانيِّين ذوي خصوصية تُناسب تحديد الزمان والمكان؛ فيلتقط الفكر معانيَ ليست من إعطاء اللغة مباشرة كقول السياب عن مدينته في قصيدته (مدينة السندباد) من ديوانه (أنشودة المطر) : [أهذه مدينتي أهذه الطلول. خُطَّ عليها (عاشت الحياة). من دم قتلاها فلا حياة.. فيها ولا ماء ولا حقول. أهذه مدينتي خناجر التَّتَر. تُغْمَدُ فوق بابها وتلهث الغُلاة. حول دروبها ولا يزورها القمر. أهذه مدينتي أهذه الحفر. وهذه العظام يُطِلُّ من بيوتها الظلام. ويصبغ الدماء بالقتام.]. وهذه الصور من المفردات المتناثرة التي يأخذ منها الاستنباطُ العقلي دلالةَ المُسَمَّى أو الموصوف مع دلالة الاقتران : نالت استحسان الدكتور عناد غزوان في بحثه ( الصورة في القصيدة العراقية الحديثة ) استحساناً مجملاً في سَرْده صوراً مشابهة وهي: (خنجر العقم، وانتفاضة القريحة، وعصر النحاس الحزين، والمدى الدموي، والفجر المشنوق في المقلة، ولؤلؤة الغضب.. إلخ.. إلخ ) [مجلة أقلام العددان الحادي عشر والثاني عشر السنة 22]. قال أبو عبدالرحمن: انتهى حجم السَّبْتِيَّة؛ فإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله مع التعايش الضروري بين اللغتين بحتميةٍ كونية، مع بيان أن إسقاط إحداهما تنفيه الحتميةُ نفسُها، والله المستعان، وعليه الاتكال.