ليس هذا وقت الدموع، إنه وقت حملُ الأمانة وتسليمها إلى أهلها. ثماني سنوات مرَّت مع ثائر؛ الأخ والصديق والأهل بعد أن قضت الحرب على آخر فرد من عائلتي في «مندلي» وهجرها من بقي من أهلها إلى أصقاع البلاد، فصرتُ وحيداً إلا من ألمي والفراغ. نعم؛ أنا المهجور الذي هاجَر من مدينة الخراب إلى أرض المعركة. لا أدري هل كنت أبحث عن وطني هناك؟ أم كنت أبحث عمَّن يرسل بي إلى أهلي الذين قتَلتهم نيران العدو؟ أم تراني كنت أبحث عن انتقام شرعي ممَن جعلني هكذا؟ وجدتُ أن ثائر الذي أحمله بين يديَّ اليوم وقد غسلته دماءٌ لم يلوثها جحيم المعركة، كان قلباً كبيراً يسع العالم كله، وكنتُ واحداً من هذا العالم في قلبه. أنقذني من الموت ست مرات، وكلما عاتبتُه قال لي: «إن لم يكن لك أهل يحزنون عليك، فأنا أهلك وسأحزن عليك». كلما نزل في إجازة؛ أوصاني بنفسي: «لا تَمُت في غيابي؛ فأنا وكل العراق أهلك وسيحزننا غيابُك. كن شاهداً على انتصارنا لا شهيداً يفارقنا». آه يا ثائر؛ لقد وفيتُ بوعدي، فأين وعدك؟ ها أنا اليوم أحملك وأسير في طرقات بغداد المكتظة. يبدو أنه لم يبق أحدٌ في بيته. إنهم يحتفلون بانتصارنا وبشهادتك. ها هم يحملون معي نعشك ويربتون على كتفي ويهنئوني بالانتصار. وسط الأهازيج العراقية؛ يصدح بيان البيانات من كل مكان؛ بصوت مِقداد مراد: «أيها الشعب العراقي العظيم يا أبناء أمتنا العربية المجيدة، أيها الرجال النشامى في قواتنا المسلحة الباسلة، إنه يومكم اليوم، إنه يوم الأيام وهذا بيان البيانات. في هذا اليوم صدر إعلان وقف إطلاق النار، وقد حدد يوم الوقف الرسمي لإطلاق النار في العشرين من آب «أغسطس» عام 1988». ها أنا اليوم أسير ومعي الشعب العراقي كله نزفّك إلى أهلك وإلى مثواك الأخير وقد اختلطت علينا دموع الفرح والحزن معاً. ها قد وصلنا يا ثائر إلى بيتك وها هي أمك الثكلى تستقبلنا بالزغاريد والدموع معاً. وها هي زوجتك ومعها أولادك؛ حيارى بين البكاء والفرح وأنا أقف حائراً بما عليّ قوله لهم. مررتُ على رجُلٍ رث الثياب عند عودتنا من مثواك الأخير. كان حزيناً ويبدو عليه الغضب من فرح العراقيين بانتهاء الحرب، يقولون إنه رجل مجنون، حملني الفضول لأعرف ما الذي يغضبه من انتهاء الحرب. اقتربتُ منه كي أسأله فبادرني هو بالقول: «أنت جندي عائد من الحرب، ثيابك تقول هذا. تحتفلون بانتهاء الحرب ولا تدرون أنها قد بدأت اليوم، يا مجانين وستحرق الأخضر واليابس». صمتَ قليلاً ثم قال: «أنت ستكون واحداً من المجرمين. ستحرقون الأخضر واليابس يا كفرة». كلماته أشعَلت في داخلي حرباً أخرى وشعوراً لم أفهم معناه. أستشعر صدق ما قالَ يا ثائر؛ لذا سأهرب، لكي لا يتحقق ما تنبَأ به.