النسخة: الورقية - دولي < مع بدء التحضيرات لبدء جولة المفاوضات الحالية بين إسرائيل والفلسطينيين برعاية أميركية، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الخطوط العامة التي ترشد الموقف الإسرائيلي الرسمي، وتضمنت تراجعاً جوهرياً عن الأسس التي تبنتها الحكومات الإسرائيلية السابقة التي دخلت مسار المفاوضات، والتي انطلقت من الأساس أنه يجب التوصل إلى اتفاق حول الحدود أولاً، وقد اتفق الجانب الفلسطيني على هذا الأساس أيضاً، إلا أن نتانياهو أراد وضع أسس جديدة لبدء المفاوضات لا تنطلق من ترسيم الحدود وإنما البدء بالاعتراف بإسرائيل كدولة الشعب اليهودي أي اعتراف بيهودية الدولة. لم يكن نتانياهو المسؤول الإسرائيلي الوحيد الذي وضع قضية الاعتراف في عملية التفاوض والسلام، فقد ظهرت قضية الاعتراف في اتفاق السلام مع مصر ومع الأردن وحتى في إعلان المبادئ الموقع في أوسلو، إلا أنه في الاتفاقيات الثلاث السابقة اكتفت إسرائيل بصيغة اعتراف كما هو متعارف عليه في العلاقات الدولية، أي اعتراف بكيانات سياسية وبسيادتها في الحدود التي تم الاتفاق عليها. وحتى موضوع الاعتراف بيهودية الدولة فقد ظهر هذا المطلب في الرد الإسرائيلي في فترة ولاية شارون على خريطة الطريق. لذلك فنتانياهو هو الوحيد الذي اشترط الاتفاق المسبق وأعطاه جوهراً أكثر وضوحاً وملزماً وهو الاعتراف بيهودية الدولة وبإسرائيل كدولة الشعب اليهودي، ووضعه على رأس سلم أولويات التفاوض ويسبق المواضيع الجوهرية الأخرى مثل القدس، اللاجئين، الاستيطان والحدود والترتيبات الأمنية. وأكد نتانياهو على مطلب الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية في خطاب له في حزيران (يونيو) 2009، وفي خطابه أمام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك في تموز (يوليو) 2010 وفي عدة مناسبات لاحقة، حتى اجتماعه الأخير قبل أيام مع الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي تبنى ضمنياً الموقف الإسرائيلي بالنسبة لهذا المطلب. يعتبر هذا التجديد عند نتانياهو عميقاً وليس جديداً فقط، فهو يربط بين قضية الاعتراف وبين نجاح المفاوضات، ويعتقد أن حل كل القضايا الجوهرية للصراع تتعلق باعتراف الفلسطينيين بالدولة كيهودية. وقد وصف نتانياهو مرات عدة الرفض الفلسطيني بهذا الاعتراف بأنه يعود إلى «جذور الصراع»، ويعبر عن إصرار الفلسطينيين على عدم التسليم بوجود إسرائيل. إذ لا يقبل نتانياهو المبدأ القائل بأن إنهاء الاحتلال سوف ينهي الصراع، بل إن الأمر أبعد من ذلك. ففي لقاء جمعه في القدس مع منظمة «مسيحيون موحدون من أجل إسرائيل» في آذار (مارس) 2012، قال «اعداؤنا لا يكرهوننا بسبب ما نفعل، وإنما بسبب من نكون». وهي مقولة أخرى من بين كثير من المقولات والخطابات التي يؤكد فيها نتانياهو على أن جوهر القضية بحسب رأيه هو ليس الاحتلال وإنما الاعتراف. ويثابر نتانياهو على خطاب الاعتراف في كل مناسبة، يحاول أن يتبع هذه الاستراتيجية في إشارة إلى أن المشكلة ليست في عام 1967 بل في عام 1948، وأن المشكلة ليست إقامة دولة فلسطينية بل في عدم الاعتراف بدولة يهودية. ويعتبر خطاب الاعتراف خطاباً يحاول أن يزيل صفة المحتل عن كاهل إسرائيل، وهذا ما أشار إليه نتانياهو في خطابه الشهير قبل عام في الكونغرس عندما قال بان تواجد اليهود في الضفة الغربية ليس احتلالاً بل هو عودة إلى أرض الأجداد حيث أن الأرض هي حق تاريخي لليهود. وبهذا فانه يحاول أن يقول إن إسرائيل ليست دولة محتلة، بل حقها في هذه الأرض هو حق تاريخي وديني، وانه مستعد للتنازل بألم عن هذه الأرض مقابل اعتراف فلسطيني بيهودية الدولة. يدرك نتانياهو جيداً معنى مطلب الاعتراف وانعكاساته على مجمل القضايا الجوهرية، فاعتراف فلسطيني بيهودية الدولة معناه تنازل فلسطيني عن حق العودة، ولن يكون هنالك معنى للتفاوض حول هذا الموضوع، وأن مطلب الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية هو مطلب يتناقض مع الديموقراطية التي تدعيها إسرائيل، خصوصاً في ما يتعلق بمكانة وحقوق الفلسطينيين من مواطني إسرائيل، كما إن نتانياهو من خلال هذا المطلب سيحصل على اعتراف فلسطيني بالرواية التاريخية الإسرائيلية والحقوق اليهودية في القدس وفي الضفة الغربية وانعكاسات ذلك على موضوع السيادة والمستوطنات في الضفة الغربية. يدرك نتانياهو أيضاً أن الفلسطينيين يدركون ذلك، لهذا فهو يدرك أن مطلب الاعتراف معناه إفشال المفاوضات حتى قبل بدئها. للتلخيص، يشكل الإصرار على مطلب الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، ترتيباً جديداً لأولويات التفاوض الإسرائيلية وإضافة قضية جديدة إلى القضايا الجوهرية. ومن الممكن فهم هذا الموقف في أربعة سياقات: الأول، على انه يمثل منطلقاً أيديولوجيا عميقاً لليمين الإسرائيلي الذي يعتبر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على انه صراع حول وجود إسرائيل وشرعيته. وثانياً، من الممكن أن يفهم على أنه موقف تكتيكي يتطلع إلى وضع عقبات جدية أمام نجاح المفاوضات، وهذا أيضاً من أولويات سياسة نتانياهو، على رغم إعلانه اللفظي بانه يؤيد الوصول إلى تسوية تتضمن إقامة دولة فلسطينية. وثالثاً، الاعتراف الرسمي الفلسطيني بهذا المطلب سوف يؤدي إلى تعميق الخلافات داخل الفلسطينيين وسوف يؤدي إلى تعمق انعدام الشرعية لقيادة محمود عباس وسلطة رام الله، فهذا المطلب يمثل خطاً أحمر حقيقياً في طريق تطلع الفلسطينيين من مواطني إسرائيل إلى المساواة وقد أعلنوا ذلك بشكل واضح في وثيقة «التصور المستقبلي» التي صدرت عن لجنة المتابعة العليا التي تمثلهم عام 2006، كما أن هذا الاعتراف يتناقض جوهرياً مع مطلب حق العودة للاجئين الفلسطينيين أو على الأقل هذا ما تسعى إسرائيل إليه، وبهذا فان نتانياهو يتطلع إلى تعميق المأزق الفلسطيني الداخلي، وهو يدرك أن غالبية الفصائل والقوى السياسية، بما في ذلك داخل حركة فتح، لن ترضى بهذا الاعتراف. ورابعاً، يتطلع نتانياهو من وراء الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية إلى الحصول على اعتراف دولي متجدد بهذا المطلب وسوف يضعف هذا الاعتراف الدولي من النقد المتسع لإسرائيل في العالم عموماً، وفي الغرب خصوصاً، بما في ذلك في أوساط يهودية والتي باتت تعرف بأن المعنى الحقيقي للدولة اليهودية هو تفوق عرقي يهودي يضع غير اليهود في خانة المواطنة الثانوية، والمستجدية في دولة اليهود. * أستاذ جامعي، حيفا