بانتظار ترامب في العراق د. ماجد السامرائي بعد خمسة أيام من إعلان فوز دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأميركية كتبت مقالة في صحيفة العرب الغراء بتاريخ 9 نوفمبر 2016 ذكرت فيها بأنني كنت من بين قلائل غير الأميركيين مرحبا بفوز ترامب بالرئاسة، وكان هذا الاستبشار غير العاطفي صادرا عن قراءة عراقية لما ألحقه الرؤساء الأميركيون السابقون من كوارث، في مقدمتها تسليمهم سلطة الحكم في العراق لسياسيي الإسلام الشيعي في مسلسل لتحطيم وتفكيك عناصر القوة في الشعب العراقي، وإزالة تراكم البناء الفكري والسياسي والاقتصادي، وإزاحة تراث الحركات الوطنية، بجميع تياراتها القومية العروبية واليسارية، الذي تقدم على التيار الديني بجناحيه الشيعي والسني الذي كان بعيدا عن طموحات الجمهور العراقي، ولكن وقائع الحرب والسياسة في العراق أطلقت عنان التيار الإسلامي الشيعي أكثر من السني الذي ظل حبيس اجتهادات الإسلام السلفي الذي لم تختلف نتائجه عن الإسلام الشيعي. وكان من بين النتائج العرضية للحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988) تبني نظام ولاية الفقيه الإيراني للجماعات السياسية والدينية الشيعية التي اضطهدها صدام حسين، ولهذا تحولت إلى أداة لوجستية للانقضاض على نظام الحكم العراقي، فتشكل فيلق بدر الذراع العسكرية لمجلس الراحل محمد باقر الحكيم. لولا الصراع العراقي الإيراني المسلح لكان بالإمكان أن تكون تلك الجماعات الإسلامية والشيعية واحدة من بين قوى المعارضة العراقية التي نشطت بعد العام 1991 على إثر شن الولايات المتحدة لحرب تحرير الكويت بسبب اجتياح صدام. كانت هناك معارضات متعددة للنظام، بينها حركات قومية ويسارية وإسلامية، وغالبيتها خضعت لإرادات ورغبات وتوجهات جهات مخابراتية (سعودية وسورية وإيرانية)، ولكن التحول الجدي الذي حصل في ترتيب مواقع “الأحصنة الإسلامية” لتلك التنظيمات، هو اللعبة الكبرى التي أدارتها قوى اليمين المتطرف بواشنطن في البيت الأبيض والبنتاغون والتي وجدت في قوى الإسلام السياسي الشيعي البديل لحكم صدام حسين في معادلة لم يدركها الكثير في ذلك الوقت، معتمـدة على الحركـات الإسـلامية في المنطقة، ومستبعدة القوى الوطنية العربية لأنها من وجهة نظر قوى التحكم اليمينية تلك تقود إلى حكم ليبرالي مدني عروبي في العراق وعموم المنطقة، ولا تتوافق بل تخاصم أميركا وإسرائيل وإيران. واشتغلت إدارتا جورج بوش الأب الجمهوري، ثم بيل كلينتون الديمقراطي، في المرحلة التمهيدية الأولى، لتقود المعارضة العراقية بجهد سياسي وعسكري واستخباراتي أدى إلى المرحلة العسكرية اللاحقة في ظل إدارة بوش الابن بالاحتلال المباشر عام 2003 في أكثر المفاصل السياسية التاريخية بشاعة وزيفا، وليستكمل باراك أوباما ذات المخطط عبر تعزيز مكانة الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية في حكم العـراق كقاعدة حيوية للانطلاق نحو المنطقة، واستثمرت إيران هذا التطور لصالحها في تكريس مواقعها الشاملة في العراق. لكن حساب الحقل لم يكن كحساب البيدر، فقد فشل الأميركان في العراق وقاد ذلك إلى انسحابهم المذلّ من البلد والتخلي عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، وحل محله مشروع الهلال الشيعي الكبير بقيادة إيران، كما فشلت في بغداد تجربة الحكم الإسلامي الشيعي تماما، حيث تمت سرقة ما لا يقل عن 880 مليار دولار من خزينة العراق وترك الشعب، بسنته وشيعته، ضحية الفقر والجوع والتشرد، وتم تنفيذ أقسى أشكال التطرف الطائفي بدوافع إيرانية وبرضا الولايات المتحدة. ولهذا فإن جميع المعطيات الجيوسياسية تشير إلى أن قوى التحكم الأميركية تشهد تحولا هائلا بمجيء دونالد ترامب إلى الحكم. هذا الرجل قد خرج من بطن أميركا الأولى متمردا على جميع مفاصل لعبة السياسيين داخل أميركا، وداعيا إلى ثورة أميركا الجديدة بجميع مفاصل الحياة، وهذا يعني افتراقه عن تحكم قوى اللوبي التقليدية التي تلاعبت بمقدرات الأميركيين، وهو جهد في التحولات كبير سيعطي من دون شك نتائجه على الداخل الأميركي. كما أن شعاراته في الاقتصاص من التطرف الإسلامي، ورمزه الحالي تنظيم داعش، ستقود إلى مراجعة جدية مهمّة لسياسة واشنطن في المنطقة، حيث فيها أنظمة حكم شيعية وسنية تمثل مرجعيتها في كل من السعودية وإيران والعراق ركيزة مهمة لهذا الحكم الشيعي وترامب سينظر إلى الحكم في بغداد كرافعة مهمة لنظام ولاية الفقيه في طهران، ولن تغيّر من هذه الحقيقة التطمينات التي أطلقها السفير الأميركي الحالي في بغداد قبل أيام للحكومة العراقية بدعم ترامب لجهودها في محاربة داعش، وهو أمر يتوافق مع شعاراته في أولويات معركته الخارجية الراهنة، لكن ذلك لن يلغي توجهاته الجديدة ضد التطرف الإسلامي ولعل سياسة الأحزاب الحاكمة في بغداد لن تبتعد عن هذا الوصف إلا إذا استفاقت من نشوتها “المتطرفة” وأعادت البلد إلى سكته الطبيعية، وهذا مستبعد. ولا توجد مؤشرات على تخليها عن هذا النهج الإسلامي المتطرف الذي انعكست سياساته على الأرض منذ ثلاثة عشر عاما. إن تعاطي دونالد ترامب الجدي مع الملف النووي الإيراني، وردود الفعل المقابلة للقيادة الإيرانية سيتركان آثارهما على وضع حكم الأحزاب الشيعية في بغداد. خلال هذه الأيام هناك مهادنة مؤقتة بين بغداد وواشنطن بسبب التصدي لتنظيم داعش في العراق، وهي مهمة لن يقف دونالد ترامب في وجهها، كما أن الحكم في بغـداد بعد نهاية داعش من العـراق، سيظهـر المواقـف الحقيقية تجاه واشنطن. هل سينقلبون على طهران وهذا مستبعد، كما أن لعبة التوازن التي اشتغلت عليها حكومتا نوري المالكي وحيدر العبادي لن تجدي، ولن يطلب ترامب العطف على سنة العراق مثلما فعل أوباما، وقصة ربطهم بالإرهاب لن تنفع، فقـد مـدح صدام واعتبره خصما شديدا للإرهاب، هذا إذا كان السنة ورثة صدام وهو حكم ظالم. جميع استحضارات الأحزاب الشيعية لن تتمكن من تطويع سياسة ترامب إذا ما تهيّأت له الاستشارات النزيهة الخالية من الأغراض السابقة التي نظرت إلى العراق بعين واحدة خضعت لمقولة قديمة مفادها “مظلومية الشيعة”، وهي مقولة لا تمتّ بصلة لواقع العراق الحقيقي قبل العام 2003 الذي كان شعبه يبحث عن الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية، ولم يكن حكما للسنة. العرب السنة كانوا طبقة البناء والتطور، ومعهم شركاؤهم العرب الشيعة. لقد خرّبت السياسات الأميركية السابقة الوضع العراقي بعد العام 2003، حيث كانت الفرص مواتية لبناء معمار سياسي يقود إلى الدولة المدنية. لقد تم استحكام المشهد السياسي بقوة الاحتلال وإجراءاته حين وفر الفرصة فقط للتيار الإسلامي بعد تجريمه لحزب البعـث والـذي حكم صدام حسين باسمه مثلما يحكم اليوم الرئيس السـوري بشار الأسد، وأصبحت مساحة الفراغ السياسي هائلة وكبيرة في هـذا البلد الذي شغل الدنيا، ولم يكن من المتوقع أن يخرج من حكم الحزب الواحد ليدخل في حكم المجموعة الإسلامية الواحدة. وهذا أمر لا يصح خصوصا في ظل التطورات العالمية الحالية التي تتلقى من الإرهاب المغطى بالإسلام ما تتلقاه، ولن تستطيع قـوى الإسلام الشيعي في العراق، أن تبرّئ حالها، وتوجه النار نحو عرب العراق السنة، وكأنهم ممثلون للإسلام السياسي السني السلفي والتكفيري. صحيح أن القوى المتطرفة في الإسلام السياسي الشيعي مهادنة للغرب وأميركا، لأنها تعتقد بأن معركتها محلية، وتعبّر عن أجندات تصفية العرب السنة في العراق، لكن ذلك لن يقنع مراكز القرار الأميركي الجديدة، وأشواط الافتراق ما بينها وبين واشنطن قد بدأت. وسط هذا الإرباك الأولي داخل مؤسسات الأحزاب الحاكمة في بغداد هناك استحضارات أولية في السعي إلى إقناع الغرب وأميركا بأنهما هما المتصديان الوحيدان لداعش والإرهاب في العراق، ويضعان علامات الشك والاتهام على العرب السنة بأنهم حاضنون للإرهاب، وهو تسويق جائر ومخالف للحقيقة لكي يستمروا في عزل العـرب السنة عن أميركا والغرب في حين أنهم في الحقيقة يسعون للتغطية على كل الخراب والفساد الذي فضحه ترامب خلال حملته الانتخابية، وقد تعتقد حكومة بغداد أنها ستكون في مأمن عن أي سياسة أميركية قاسية ضد الإسلام الشيعي في المنطقة. في هذه اللحظات الحاسمة وقبل أن نسمع من ترامب قرارات مفاجئة في الملف العراقي، لا بد على النخب السياسية والفكرية العراقية غير الطائفية التي ظلت وفية لمبادئ الديمقراطية والتعددية وإقامة دولة المواطنة والتي لم تسقط في شهوات البحث عن مواقع لها وسـط ركام الطائفية، أن تفتح أبواب حوار جدي مع مستشاري ترامب والمسؤولين الجدد عن الملف العراقي بعيدا عن اللوبيات القديمة التي دمرت الوضع السياسي العراقي، وهناك رموز سياسية أميركية لديها رؤية إيجابية تتوافق مع النهج الجـديد، وأن يتم التواصل بمختلف السبل والوسائط وستكون لوسائل الإعـلام العربي والأميركي الحـر النـزيه أهمية ليست قليلة في ذلك، وذلك قبل أن تتبلور ألاعيب الديناصورات المحنطة بصيغتها الطائفية. نحن في انتظار ترامب في العراق. كاتب عراقي باهر/12