يصعب الحديث عن معايير الجودة والتميز والأداء الأكاديمي والقيم المهنية بمعزل عن المؤثرات السوسوثقافية التي تأتي من خارج أسوار الجامعة، ونحن نعلم أن مسألة النمو العلمي وازدهار العلم والتعليم هي مسألة ليست علمية بل سياسية حضارية وثقافية، فكذلك يمكننا القول، إن مشكلة معايير الجودة والتميز ليست مشكلة فنية أو إدارية أو أخلاقية أو ذاتية يمكن حصرها وحلها داخل جدران الجامعة الأربعة أو في أداء عضو هيئة التدريس فقط بل هي مشكلة أكثر تعقيداً مما يمكن تخيله، إنها تتصل بنسق هائل من المستويات والعناصر الحضارية والتاريخية والفكرية وكل المنظومة الثقافية للمجتمع التقليدي أو الحديث، إذ إن الجامعة بحكم حداثة ميلادها في بيئتنا الثقافية التقليدية ظلت عرضة للاختراق من البنى والقوى والقيم والممارسات والعادات والمعتقدات التقليدية التي تشن حربا لا هوادة فيها ضد هذه المؤسسة الوليدة دون وعي في معظم الأحيان وبوعي أحياناً، وهذه هي سنة من سنن الحياة الاجتماعية، إنه الصراع الأبدي بين القديم والحديث بين التقليد والتجديد بين المألوف وغير المألوف بين القوى والمصالح الاجتماعية السياسية الاقتصادية المتنافسة المتصارعة المختلفة الإستراتيجيات والغايات والأهداف صراع بين المعروف والمجهول بين الطبع والتطبع، بين العادات التي تشكلنا والعادات التي نريد أن نشكلها، هذا يعني أن التعليم الجامعي على صلة وثيقة بالسياق التطوري التاريخي للمجتمع وتراثه وقيمه ومؤسساته وبنياته وتقاليده من جهة وبالمؤسسة الأكاديمية الحديثة وتاريخ نشأتها ومستوى تقدمها من جهة أخرى. إذ يصعب فهم وتفسير تخلف مخرجات جامعتنا بمعزل عن تخلف المجتمع والجامعة ككل. فالالتزام بأنماط معينة للعلاقات الاجتماعية يولد طريقة معينة في النظر إلى العالم، كما أن رؤية العالم بطريقة معينة تبرر نموذجاً منسجماً معها للعلاقات الاجتماعية. ومن المعروف أن أفكار الناس ونظراتهم للعالم وإلى أنفسهم والآخرين وكيفية تجسيد الحياة فيه نابعة من علاقاتهم الاجتماعية، ففي مجمع لا يمتلك ثقافة مؤسسية ولا ثقافة قانونية ولا يزال يخضع لهيمنة العلاقات التقليدية، كيف يمكن أن تكون فيه المؤسسة الأكاديمية وقيمها لا سيما إذا تركت مكشوفة لأعدائها التقليديين بلا حماية وبلا رعاية من الدولة والمجتمع وبلا سلطة خارجية أو ذاتية وفي ثقافة لا يزال بعض الناس فيها ينكرون الطبيعة وقوانينها والإنسان وعقله وحريته وغير ذلك من الظواهر والمواضيع التي هي الموضوع الأول والأخير لكل العلوم الطبيعية والإنسانية وينكرون العقل الإنساني كأداة ومعيار للمعرفة العلمية بل وينكرون الإنسان بعدّه كائنا كرمه الله وأكرمه بالعقل وبالقدرة على التمييز والمعرفة ومن ثم فهو يستحق بأن يعيش حياته بحرية وكرامة وأمن وأمان، هذا الإنسان الذي هو الموضوع الجوهري لكل العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي ثقافة رسمية وشعبية ما زال مفهوم العلم فيها يثير الالتباس وغير متفق عليه، بل ما زال الاعتقاد الراسخ، بأن العلماء هم «علماء الدين أو علماء الشريعة ولا أحد سواهم)، وأن العلم هو العلم الشرعي النافع في الدار الآخرة لا في هذه الدنيا الفانية (وأن كل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) هذا الحديث الشريف الذي يحذر من البدع والابتداع في العقيدة الدينية الإسلامية الحنيفة السمحة الذي جرى تأويله وتعميمه مع الأسف الشديد على كل مناحي حياة المسلمين بسبب الغلو والتطرف في التأويل والتفسير، وفي مجتمع ما زالت فيه الثقافة السحرية والأسطورة والخرافية واللاهوتية تهيمن على كل الأفق الثقافي والفكري عند الخاصة والعامة في مجتمع ليس من بين مثله العليا للنجاح العلم والتعليم والتفوق العلمي والكفاءة الشخصية والأداء المتميز والمواهب الفردية بل القرابة، العشائرية القبلية والعصبية والنفوذ والمحسوبية والرشوة والوساطة والانتهازية، والابتذال والنفاق والمزايدات السياسية الآيديولوجية يقول (جون جاردنر) في كتابه (التميز الموهبة والقيادة)»إذا أعدت الرثاثة والهرجلة مجتمعاً ما فليس من السهل على أي عضو في ذلك المجتمع أن يبقى بمعزل عن التأثر بها في سلوكه الخاص والعام».