يقول الإمام الشافعي: سافر تجد عوضاً عمن تفارقه ** وانصب فإن لذيذ العيش في النصب ما في المقام لذي لب وذي أدب ** معزة فاترك الأوطان واغترب إني رأيت وقوف الماء يفسده ** إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطب والبدر لولا أفول منه ما نظرت ** إليه في كل حين عين مرتقب والأسد لولا فراق الغاب ما قنصت ** والسهم لولا فراق القوس لم يصب والتبر كالترب ملقى في أماكنه ** والعود في أرضه نوع من الحطب فإن تغرب هذا عز مطلبه ** وإنْ تَغَرَّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ تبعاً لما سبق في هذه السلسلة، نستكمل سرد مزايا وسلبيات الاغتراب. * من مزايا الاغتراب المتعددة: - إدارة حياتك: حيث تتعلم إدارة مالك وحالك دون الاعتماد على الأهل، وأيضاً تنظيم وقتك، والاعتماد الكامل على نفسك في كل شؤون الحياة. - معرفة قدراتك الحقيقية: حيث تستطيع إعادة اكتشاف نفسك وقدراتك الحقيقية، بلا اعتماد على أي عوامل خارجية. - إدارة منزلك: ستكون المسؤول الوحيد عن المنزل (حتى وإن كنت متزوجاً سيكون العبء أكبر مما كان مع الأهل) من أكل وشرب ونظافة وصيانة وإصلاح المشكلات وخلافه، وقد تتعلم الطبخ؛ لأنك لن تستطيع الاعتماد على الوجبات الجاهزة دوماً، بعد العودة من غربتك غالباً ستجد نفس المشكلات التي كانت تواجهك، لكنك ستكون خبيراً بالحلول، وسينعكس إيجاباً على حياتك المستقبلية؛ لأن تركيزك سيكون في الأمور الأخرى، وليس في إدارة المنزل. - التعرف على ثقافات أخرى: هناك عدد كبير جداً من الثقافات المختلفة التي حتماً ستتقابل معها في غربتك، وتتعرف على نمط حياة أفراد كل ثقافة، وحيلهم للاسترزاق ومعتقداتهم، والكثير من المعلومات الأخرى، وأيضاً تنفتح على العالم وتزداد دائرة المعارف لديك. - تعلم مهارات جديدة: بإمكانك تعلم مهارات ولغات جديدة قد تكون مضطراً لهذا، وقد تكون تريد، ولكن الكسل وقلة الوقت منعاك من هذا. - تقدير حياتك السابقة: في الاغتراب فرصة للتقدير السليم لحياتك السابقة، وهل كنت سعيداً أم لا؟ حيث يقول المثل: "لا تعرف قيمة الشيء إلا عندما تخسره". - الأهل والأصحاب: الاغتراب يجعل أهلك وأصحابك ينسون زلاتك ويتذكرونك دوماً مع تنهيدة شوق، ويجعل قلبك يرق لأهلك الذين ربما كنت قاسياً معهم. - الهرب من جحيم الحكومة وجنونها إلى بلاد أكثر عدلاً وآدمية، وحفاظاً على الإنسان وحقوقه. - زيادة الدخل المادي وتوفير المال. * ومن آراء الأدباء والعلماء والشعراء والفلاسفة والمفكرين والفقهاء تجاه السفر والاغتراب مدحاً: قال ابن المعتز: أشقى من المسافر إلى الأمل ** مَنْ قعد في الناس عن العمل وجاء في المحاسن والمساوئ للبيهقي: اطلبوا الرزق في البُعد، فإنكم إن لم تكسبوا مالاً غنمتم عقلاً كثيراً. جاء في المبهج للثعالبي: مَنْ آثر السفر على القعود، فلا يبعد أن يعود مورق العود، وقيل: ربما أسفر السفر عن النظر، وتعذّر في الوطن الوطر. وقد مدح أعرابي رجلاً فقال: خرجته الغربة، ودرّبته التجربة، وضرسته النوائب. وقيل لأحدهم: ما العيش؟ فقال: دوران البلدان ولقاء الإخوان. وجاء في كتاب اللطائف والظرائف لأبي نصر المقدسي: ليس بينك وبين بلدك نسب، فخير البلاد ما حملك وجملّك، وقيل: اهجر وطنك إذا نبت عنه نفسك، وأوحش أهلك إذا كان في إيحاشهم أُنسك. وقال أحدهم: الفقر في أوطاننا غُربة ** والمالُ في الغُربة أوطانُ والأرضُ شيء كله واحد ** ويخلف الجيران جيرانُ * ومن سلبيات الاغتراب: الابتعاد عن الأهل والأحباب والجيران والأصحاب والأقارب، عندها يشعر المغترب بوحدة واكتئاب وقنوط، يحس بنفسه كأنه في أرض جميلة، لكن بدون ناس، وقليلاً ما يستطيع أن يشارك في المناسبات الخاصة بأهله وأصدقائه من أعياد أو أفراح أو أحزان، وبذلك يفقد حياة اجتماعية كبيرة. - عدم التأقلم: تحدث هذه الصدمة الثقافية للمغتربين نتيجة اختلاف الثقافات، فيشعرون أنهم في كوكب آخر، ويفقدون آلية التواصل مع المحيط الذي كانوا فيه، ويحدث هذا عندما يعتاد الإنسان على حياة أخرى بقوانين وبديهيات وحقوق مختلفة، وهناك بعض الأشخاص صعب تأقلمهم، فيصابون بصدمات نفسية جراء الاغتراب. - ستشعر بأن الوقت لا يمر بسرعة كما كان في بلدك وسط أهلك وأصحابك. - ستحن إلى جميع ذكرياتك القديمة. - عدم الاستقرار؛ لأنك بعيد عن وطنك، فلا تستطيع أن تعيش في بلدك، ولا أن تعيش في البلد الجديد. - صعوبة العودة والتأقلم، خصوصاً لمن مرت سنوات طويلة على سفره. - افتقار المجتمع إلى الشباب، بسبب هجرتهم، وهذا ينتج عنه مزيد من التضخم في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. - للعزاب أحياناً صعوبة البحث عن عروس مناسب لابتعاده عن بلده، ولعدم وجود حياة اجتماعية حقيقية بالغربة. * آراء الأدباء والعلماء والشعراء والفلاسفة والمفكرين والفقهاء تجاه السفر والاغتراب ذماً: كان الحجاج يقول: لولا فرحة الإياب لما عذّبت أعدائي إلا بالسفر. وكان يقال طول السفر ملالة، وكثرة المنى ضلالة، وكان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يتعوذ من وعثاء السفر. قيل: الغريب كاليتيم العظيم الذي ثكل أبويه، فلا أم ترأمه، ولا أب يرأف عليه. قال الطائي: نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحُبّ إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنينه أبداً لأول منزلِ وقال آخر: وإن اغتراب المرء من غير خلّةٍ ** ولا همةٍ يسمو لها لعجيبُ وحسب الفتى ذلاً وإن أدرك الغنى ** ونال الثراء أن يقال غريبُ فالغربة صعبة على من استسلم لها، واعتبر نفسه منبوذاً غريباً فتجرحه أدنى كلمة، ولا يريد مخالطة الآخرين، فهو يفسر نظرته للمجتمع على أنه غريب، فيكون غريباً، وهذا مطبق حتى بين الأصحاب والأقارب. أما من كانت نظرته متفائلة وكان محباً للجميع، يشارك ويعتبر نفسه مكملاً للآخرين، فسوف يحس أنه بين أحبابه وأصدقائه، فلنكيّف أنفسنا بمحيطنا. وبعد، فهل أنت أخي القارئ مع أم ضد السّفر والاغتراب؟! وهل نلت فوائد السفر، وتجنبّت مساوئ الاغتراب؟! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.