×
محافظة المنطقة الشرقية

انطلاق دوري الجامعة الخليجية لكرة القدم تزامنًا مع احتفالات المملكة بذكرى الميثاق الوطني

صورة الخبر

كثيراً ما كنا نقرأ أو نسمع عن مدن الصفيح، وربما كان بعضنا يعيش فيها، أو في بيوت قريبةٍ منها، هذه المدن التي تعيش بين قوسين من التجهيل وانعدام الخدمات، هناك حيث لا ماء ولا كهرباء ولا طرقات ولا إنترنت، والنفي هنا نفي للكمال لا نفي للوجود. وكيف يكون فيها كهرباء وماء وإنترنت؟ وهي بلا جدرٍ وبلا حيطانٍ، والحيطان وإن كانت دفاتر المجانين ولها آذان، ولكنها عنوان الحضارة وحاضنة التطور، ولم يزل البناء والمعمار مؤشراً للتطور والتقدم على مر العصور والأزمان، فلا تعليم مثمر بلا بناء مدرسي ولا تطور دون صروح الجامعات. ولا يزال الباحثون الاجتماعيون يحذرون من مدن الصفيح، ويسميها السياسيون قنابل موقوتةً، وخزان الإرهاب وما إلى ذلك من التسميات، التي لا تحل المشكلات. لكن المهم أن مدن الصفيح موجودة، على هامش الحياة في معظم المدن العربية غنيها وفقيرها، معبرة عن أبشع حالات انعدام العدالة الاجتماعية، وتضم الملايين من المهمشين، الذين لا يكترث بهم أحد إلا يوم الانتخابات. تركيبة سكانية أخرى موجودة، لكن ليس على هامش الحياة، بل على هامش الموت هذه المرة، إنها مجموعات بشرية، تتكون من مئات الآلاف، أسر بكاملها تعيش في المقابر "الترب"، وهذه ظاهرة فريدة تستحق الدراسة، عندما يجبرك الفقر على أن يصبح شريكك في الغرفة، مرحوم من المرحومين، أو معذب من المعذبين، ومن لم يزر الترب في مصر لن يصدق ما أكتبه بكل تأكيدٍ. وبالطبع لا داعي لأن نتحدث عن الخدمات في الترب، فالحكومات تتثاقل بخدمة الأحياء، فكيف لها أن تخدم الأموات؟ اللهم إلا بخدمة الدعاء لهم لانصرافهم من هذه الحياة. وبين هامش الحياة وهامش الموت، تجد مدن القماش، وهي حالة تجمع بين مدن الصفيح ومساكن الترب، فلا هي معروفة للأموات ولا للأحياء، تنقص عن مدن الصفيح، أن ساكنيها ليسوا من حاملي جنسية الأرض التي يعمرونها، فهم لاجئون معدومو الحقوق من جهةٍ، وتزيد عن مساكن الترب، أن ساكنيها لهم قلوب تنبض ولهم حاجات من الغذاء والطبابة والتعليم. مدن القماش تبدو أجمل، فهي مصنوعة من خيام منتظمةٍ في صفوفٍ، وتكسوها جميعها لوحات زرقاء موحدة، عليها شعار المجتمع الدولي، فهي تبدو للناظر جميلةً منظمةً مدعومةً، ولكن الخيام التي تجري من تحتها أنهار من مياه الصرف الصحي تخبئ تحت قماشها قصةٍ أخرى، فهي وإن كانت تؤوي جرحى الحرب العضويين والنفسيين، والأيتام والأرامل والعجزة الذين نفخر بهم، لكنها لا ترقى لمستوى العيش البدائي ولا لعيش الكهوف والمغاور. لطالما كان القماش مرتبطاً باللباس والفرش، ولم يرتبط يوماً بالبناء، وليس بديلاً عن الإسمنت والحديد والزجاج، ولكن دوام الحال من المحال، فقد أصبح اليوم لدينا مدن كاملة من القماش. إن مدن القماش التي أحدثكم عنها، هي مخيمات أنشئت ليعيش فيها ملايين السوريين وغيرهم في دول الجوار، ولا شك أن هناك مخيمات يخيل للناظر إليها عبر الشاشات أنها خمس نجوم، لكن كما قالت لي عجوز في مخيم عرسال "يا بني القماش لن يصبح جداراً"، مئات الخيام لا تقي حر الصيف بل تزيده، ولا تقي برد الشتاء بل تجلبه، هناك حيث لا حق للحياة، فأنت بلا هويةٍ وبلا اعترافٍ رسمي بك، ولا حتى حق الدفن بعد الموت، فلو فزت بشرف الموت، لن تجد قبراً يحتويك إلا بعد شديد العناء، هناك لا حق للتعليم ولا الصحة ولا الكلام، هناك أنت معلق بالريح نسمةً تأخذك وأخرى تعيدك. عندما تعيش في مدنٍ من القماش، فلا تسأل عن رفاهية الماء والكهرباء والصرف الصحي، فأنت لا تستطيع أن تحمي طفلك، من طعن البرد ولا من طعن الفقر ولا من طعن الجهل. عندما تعيش في بيتٍ من القماش، ستضحك عندما يحدثونك عن معايير الخصوصية، التي قد تسمع عن انتهاكها في وسائل التواصل الاجتماعي فقط، لا شيء اسمه خصوصيةً في بيت القماش، ولا داعي لممارسة أي ترفٍ علميٍ، لمناقشة عورة بعض الأصوات، فحتى صوت ملعقتك لا يستره القماش عن جارك، ولا ما هو أدنى من ذلك من الأصوات، صراخك وفرحك وبكاؤك كله علني معروف للجميع، حتى رائحة طعامك تضطر لتشاركها مع الآخرين. السكن في بيت القماش يعني السكن في الشارع، لا داعي للمواربة واختلاق أسماء وهميةٍ، نغطي بها عورة الحقيقة، إن هذه الظاهرة المعمارية الاجتماعية الجديدة، التي طرأت بشكلٍ كبيرٍ في هذا العصر -عصر ناطحات السحاب- وهي ظاهرة مدن القماش بحاجةٍ لمزيدٍ من تسليط الضوء، فليست هذه المدن مؤقتة كما يظن الكثيرون، إنها تستمر منذ خمس سنواتٍ، وما زال زوالها غير معروفٍ، واستمرارها بهذا الشكل يعني تخريج المزيد من الأطفال المحرومين من أبسط حقوق الحياة. في ثمانينات القرن الماضي، كتب "عبد الكريم بورشيد" مسرحية "ابن الرومي في مدن الصفيح"، لم يكن ذلك تنجيماً، لكن ابن الرومي وجابر عثرات الكرام ومتنبي حلب وديك الجن الحمصي، وغيرهم من الأطباء والمهندسين والمعلمين كلهم أصبحوا في مدن القماش. الفارق الأكبر بين مدن الصفيح ومساكن الترب وبين مدن القماش السوية الثقافية لهذه المجتمعات، فعندما يتم تطهير منطقةٍ ما وتغييرها ديموغرافياً، فإنه يتم طرد جميعٍ من تبقى فيها على قيد الحياة، بغض النظر عن حالاتهم الاجتماعية والصحية والعلمية، فالكل سيتحول من مدن الإسمنت إلى مدن القماش، تحت جناح الظلام -بتشديد الظاء وضمها- فلا تتخيلوا أن ساكني مدن القماش هم من المعدمين وغير المتعلمين، مدن القماش تحتوي أطباء ومهندسين وضباطاً ومعلمين وشعراء ومثقفين وفنانين، يعملون على تحسين نوعية الحياة وتطوير واقعهم المشلول. ومن المعروف تاريخياً، أن أجدادنا من بدو الصحراء كانوا وما زالوا يعيشون في بيوتٍ من الشعر، وخيام تقي من البرد والحر، وتتناسب مع بيئتهم ولكن كيف لبيتٍ من القماش البلاستيكي الرقيق أن يناسب للحياة وكيف له أن يقاوم الثلوج والعواصف. ثم إن التجمعات البدوية، تجمعات محدودة قليلة العدد كثيرة الخير من إبلٍ ومرعى، أما التجمعات العشوائية القسرية في مدن القماش، فهي كبيرة تضم عشرات الآلاف من الناس المختلفين، لكن مع ذلك، استطاعت هذه المدن الناشئة من رحم الموت، أن تشكل مجالس ومدارس ونقاط طبية ومراكز بيعٍ، ولا أبالغ إن قلت في أحد المخيمات معاهد متكاملة تخرج المدرسين والممرضين. بشعة مدن القماش ببردها وموتها، جميلة بهمتها ومقاومتها لهذا الموت، أعينوها إلى أن تعود مدناً من الإسمنت في أرضها لا في منفاها. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.