في حديثه عن توجهات سياسته الخارجية عندما يتولى السلطة رسمياً في العشرين من يناير الجاري، دعا الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب في حديث له مؤخراً صحيفة "التايمز" البريطانية إلى إقامة مناطق آمنة في سوريا، معتبراً أن هذا الحل "سيكون أقل تكلفة مما تعانيه ألمانيا الآن من صدمة". بسبب زخم المهاجرين جراء الصراع السوري، واصفاً قرار المستشارة الألمانية بقبول أكثر من مليون مهاجر بأنه "أحد الأخطاء الكارثية جداً". يلفت نظري في هذه التصريحات أمور عدة اهمها أن ترامب ينتقد قرار المستشارة الألمانية من دون سبب منطقي سوى لأنه يتعارض مع توجهاته الشخصية بشأن الأجانب، لا سيما أن ترامب نفسه في التصريحات ذاته وصف ميركل بأنها أهم قائد في الاتحاد الأوروبي، بل وصف الاتحاد نفسه بأنه "مطية لألمانيا"، ما يجعل من الصعب على زعيمة سياسية من هذا العيار الثقيل تتخذ قراراً من دون دراسة دقيقة لدرجة أن يصفه ترامب بأنه "قرار كارثي"! وبغض النظر عن موقف الإدارة الأميركية الجديدة حيال سياسة ألمانيا بشأن استقبال اللاجئين، فإن ما يهمني في تصريحات ترامب حول هذا الموضوع نقطتين مهمتين أولاهما أن ترامب دعا إلى إقامة مناطق آمنة داخل سوريا بحيث تتحمل دول مجلس التعاون تكلفة إقامة هذه المناطق، واصفاً دول الخليج بأنها "تمتلك أموالاً لا يمتلكها أحد"! هذا المنطق الغريب في التعامل مع القضايا الكبرى ينبئ برؤية استراتيجية قاصرة للإدارة الأميركية الجديدة في التعامل مع دول مجلس التعاون، والأمر لا يقتصر على هذه التصريحات فقط، فمن خلال متابعتي لتصريحات ترامب منذ فترات الترشح التمهيدية للانتخابات الرئاسية الأميركية لاحظت أنه يتعامل مع دول مجلس التعاون باعتبارها "صناديق أموال" ليس أكثر ولا أقل، بل أحياناً يتعامل وكأن الأموال التي تمتلكها هذه الدول لا صاحب لها ولا مسؤول عنها فنراه يقرر فيها ويوزعها كيفما شاء! منذ فترة، قال ترامب إن دول الخليج عليها أن تتحمل تكلفة إقامة المناطق الآمنة محملاً هذه الدول مسؤولية الإرهاب في سوريا! وهي ذريعة واهية أراد منها ترامب أن يثير قلق هذه الدول بحيث تنصاع لما يريد خشية أن يتهمها برعاية الإرهاب ودعمه في سوريا، مع أن ترامب وغيره من المسؤولين الأميركيين يعرفون مصدر الإرهاب في سوريا، ويعرفون جيداً من يتحكم في دفة الصراع هناك ويوجهها حسب مصالحه الاستراتيجية، ولكن المسألة بالنسبة لهم ليست تحديد المسؤوليات عن تشريد الملايين من أبناء الشعب السوري ولا تدمير بيوتهم ولا غير ذلك، بل تتلخص في كيفية معالجة أخطاء الغير بأموال دول الخليج وبشركات غربية وشرقية تتقاسم كعكة اقامة المناطق الآمنة وغيرها. تصريحات ترامب في مختلف الملفات تعكس ولعاً شديداً بمنطق الصفقات في السياسة، لا سيما الصفقات المالية منها، فهو يريد أن يبني الجدار العازل مع المكسيك على أن تتحمل المكسيك نفقات البناء فيما بعد، ويريد كذلك أن يبني مناطق آمنة في سوريا على أن تتحمل دول الخليج العربية نفقات بناء هذه المناطق، ويريد أن يواصل الشراكة الاستراتيجية الأميركية مع دول مجلس التعاون شريطة أن تتحمل هذه الدول "فاتورة" الدفاع عنها، علماً بأن هذه الشراكة لا تعني الدفاع عن أمن دول مجلس التعاون فقط بل تعني بالأساس حماية المصالح الاستراتيجية الأميركية في منطقة الخليج العربي! والأخطر مما سبق في مواقف ترامب بشأن "الصفقات" أنه يختزل الأمن والاستقرار الدولي ضمن هذه النظرة أيضاً، حيث انتقد حلف الناتو، معتبراً أنه يعاني مشكلات جمة، بل اعتبر أنه حلف "بال"، بسبب "كونه صمم منذ سنوات طويلة جدا، وثانيا أن الدول (الأعضاء) لا تدفع المستحقات التي ينبغي أن تدفعها فيه أي ضمن مخصصات ميزانية الحلف"، وهنا أيضاً يختزل ترامب رؤيته لأهمية حلف الناتو بالنسبة للمصالح الاستراتيجية الأميركية في من يدفع أموالاً أكثر ضمن ميزانية الحلف! دعنا من الناتو وغيره، ولكن من الضروري أن تدرك إدارة ترامب أن امتلاك دول مجلس التعاون وفورات مالية لا يعني بالتبعية أنها تمتلك ميزانيات لا تعرف المعاناة أو الإشكاليات، ولا اعتقد أن الإجراءات التحوطية التي تتخذها دول المجلس في العامين الأخيرين لامتصاص الآثار السلبية لانخفاض أسعار النفط تخفي على أحد من الخبراء والمراقبين. كما لا اعتقد أن من الفطنة أو النضج السياسي أن يتعامل رئيس أكبر دولة في العالم مع دول أخرى باعتبارها تمتلك أموالا كثيرة فيحملها بالتبعية ما لا تطيق أو ما لا يندرج ضمن التزاماتها ومسؤولياتها الدولية! الأمر الآخر أن ترامب ذاته قد تحدث فيما سبق عن أنه سيقيم مناطق آمنة في سوريا على أن تتحمل التكلفة المادية دول الخليج التي تسببت في تفاقم الإرهاب في سوريا، والأمر هنا ينطوي على إشكاليتين كبيرتين أولهما أن الدول التي سيقع عليها عبء التكلفة أو ستخصها واشنطن بهذا الأمر هي دول تتهمها الولايات المتحدة ضمناً بأنها راعية للإرهاب في سوريا، والأمر الثاني أن تسليم أي دولة خليجية بهذا الاختيار أو هذه التهمة، وقيامها بتحمل هذا العبء المالي يعني بالتبعية اعترافاً ضمنياً أو لنقل صريحاً بتورطها في تفاقم الإرهاب في سوريا وفقاً للتصور "الترامبي" في هذا الشأن، وهذا له ما له من تبعات وعواقب قانونية دولية يمكن إشهارها والتلويح بها وقت اللزوم! الحقيقة أن هناك أموراً كثيرة تنتظر، بل تحتاج بإلحاح، إلى نقاشات عميقة بين دول مجلس التعاون وإدارة ترامب، التي يبدو أنها لا ترى من دول مجلس التعاون سوى وفوراتها واحتياطاتها المالية، ولا تنظر بأي اهتمام إلى الدور التنموي العالمي باعتبارها نموذجاً ملهماً في توظيف الموارد وسط لا تكاد تعرف سوى الفشل والاخفاق التنموي، وأيضاً الدور الإنساني والاغاثي الكبير الذي تضطلع به هذه الدول في معالجة آثار الأزمات والصراعات في العالم، وفي مقدمة ذلك يأتي بطبيعة الحال دور الامارات، التي تدفع أثماناً باهظة، بشرياً ومادياً، لالتزامها بمسؤولياتها الإنسانية وحرصها على تثبيت دعم الأمن والاستقرار في مختلف مناطق شتى من العالم.