هذا وجه الضيف حكيم مرزوقي الضيف في يومه الأول، بشوش المحيّا، أنيق الهندام، معتدل الجلسة، حليق الذقن، مقلّم الأظافر، قليل الأكل والمحادثة، كثير الاستماع والملاطفة.. ويهزّ بالموافقة على كلّ شيء. المضيف في يومه الأوّل يكاد يستنفد كلّ عبارات الملاطفة وأفعال التبجيل والتفضيل. الضيف في يومه الثاني يستيقظ مثل أمير، يخرج من حمّامه الصباحي نحو مائدة الفطور، فيسأله أهل الدار إن كان قد نام جيّدا، يقولون له خذ راحتك، البيت بيتك، ثمّ ينصرف بعضهم إلى العمل وهم يعتذرون. يبدأ الضيف بالتنقّل في أرجاء البيت، يبادر بفتح الأحاديث والثلاّجة والأدراج، يبدي الملاحظات والاقتراحات ثمّ يلامس بعض الخصوصيات، كأن يدخل المطبخ أو يعدّل من المحطّات التلفزيونية، أو يجري مكالمة من تليفونهم الأرضي، أو يمدّ يده لتصفّح ألبوم العائلة. المضيف في يومه الثاني يتناول مع نزيله عشاء اعتياديا، يتوجّه بالحديث إلى باقي أسرته وقد يفتعل معهم مشاجرة، ينظر في ساعته ويبدأ الاثنان بالتثاؤب وتبادل عبارات الصمت. الضيف في يومه الثالث يلقي النكت فيضحك لها وحده، يعطس فلا يشمّته أحد.. وقد يجلي الفناجين والصحون، فلا يقال له دع عنك. الضيف في يومه الثالث يرتّب فراشه ويكوي ملابسه بنفسه منتعلا الشحّاطة أو الشبشب أو المشاية أوالشلاكة بحسب لهجة البلد العربي الذي ينزل فيه. قد لا يتردّد الضيف في استدعاء ضيف له عند مقرّ إقامته، وينتظر من أهل البيت القيام بواجب الضيافة وحسن الاستقبال إزاء ضيفه. المضيف في اليوم الثالث يبدأ حديثه بقوله لا شكّ أنك قد اشتقت لأهلك وبلدك، لا تنس أن تبلّغهم السلام، وينهيه بمدح مآثر الاستقرار وذمّ مثالب السفر والاغتراب، ثم يأتي لضيفه بهدية رمزية، ويتولّى مهمّة السؤال بنفسه عن مواعيد انطلاق وسائل النقل، مثنيا أمام نزيله على فوائد السفر المبكّر. ترك الضيف مكان جلوسه ونومه لضيف جديد، إلاّ أنّه لم يغادر.. لقد صار يسكن غرفة الناطور المتوفى في نفس البناية، ويعمل على تلبية حاجيات أهل الدار وضيوفهم منذ أربعين عاما. ها هو الآن ينتعل نفس “الشحّاطة”، يكنس الأدراج، يحمل أمتعة القادمين والمغادرين، وينظر إلى حقيبته الصامتة وحذائه تحت غبار الأيام. الحقيقة أنّ ضيفنا هذا لم يكن ضيفا، فلا سبيل له كي يعبره، ولا أهل له كي يعود إليهم محمّلا بالهدايا، ولا بلاد له كي يهزّه الحنين إليها.. ولا ضيف يطرق بابه. فيا صديقي ناطور البناية التي كنت أسكنها في دمشق: هذا وجه الضيف، وقد بلّله ماء الخجل ونمّشته الأهبة الدائمة للرحيل. اختفت تجاعيده تحت مكواة الخوف والانتظار، نسي الغضب وأدمن الاعتذار. بقي مبتسما وملوّحا بيده منذ لحظة المغادرة، ظلت عقارب الساعة في المحطّات تنتظره دون جدوى. ليس للضيف المزمن إلاّ حقيبة وحذاء دون طريق، وابتسامة يخلعها عند نوم، بل أحلام. سراب/12