الشاعر الفنان هو الذي يقف عند قصائد الآخرين ويتأملها ويتفاعل معها، ويقدم عنها تذوقه لقرائه الذين يحبهم ويحرص على تقديم أجود وأفضل قراءاته الشعرية لهم، والشاعر الفنان أيضا هو الذي لا تتضخم ذاته فلا يرى إلا نفسه ولا يستمع إلا لقصائده ولا يتذوق إلا شعره. هكذا فعل الشاعر الفنان فاروق شوشة عندما انتقى "أحلى عشرين قصيدة حب في الشعر العربي" – من وجهة نظره – وقدمها معلقا عليها لمحبي ومتذوقي الشعر، ثم "أحلى عشرين قصيدة في الحب الإلهي"، وهكذا فعل الشاعر محمد إبراهيم أبوسنة في كتابه "قصائد لا تموت – مختارات ودراسات"، وهكذا فعل الشاعر علي أحمد سعيد (أدونيس) عندما قدم ديوان الشعر العربي عام 1964 وقبلهم قدم إبراهيم ناجي ترجمة رقيقة لبعض أشعار الشاعر الفرنسي شارل بودلير في "أزهار الشر". وقد اختار الشاعر الفنان د. غازي القصيبي خمس قصائد أعجبته فقدمها في كتابه "قصائد أعجبتني" الذي أهداه إلى صديقه الشاعر البحريني إبراهيم العريض. ولا يكتفي القصيبي باختياره للقصائد الخمس، وإنما حاول أن يعصرن بعض هذه القصائد، فيختار لها صفة ربما غير التي أرادها مبدعها، كأن يقول عن هذه القصيدة إنها القصيدة / المسرحية، أو تلك القصيدة إنها القصيدة / الفيلم، أو القصيدة / السيمفونية .. الخ. إنه من خلال رؤيته أو تذوقه لهذه القصائد الخمس رأى أن العوالم الفنية الأخرى من السهل أو من الممكن تطبيقها على عوالم هذه القصائد التي قام باختيارها وانتقائها من وسط حدائق الشعر العربي قديمه وحديثه. •القصيدة / المسرحية القصيدة / المسرحية عند غازي القصيبي كانت قصيدة المتنبي الشهيرة "واحر قلباه" التي تمثل مواجهة بين المتنبي وسيف الدولة، والتي تعتبر في الوقت نفسه مسرحية درامية مثيرة. يقول القصيبي: "لا يمكنكم أن تفهموا القصيدة ما لم تتصوروا الجو العام الذي أحاط بها، وظروف القائها". ولنا أن نتصور خشبة المسرح وقد عُقد عليها مجلس سيف الدولة يحفّ به القواد والأعيان، ويزخر بأعداد كبيرة من النقاد والشعراء الذين كانوا يبغضون المتنبي، وكان بدوره يبغضهم، ثم نتصور المتنبي يلقي القصيدة / المسرحية التي يقول في بعض أبياتها: يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي ** فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً ** أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ **إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنابأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ ومن خلال تذوق غازي القصيبي لهذه القصيدة يوجه لومه إلى النقاد الذين زعموا أن الشعر العربي لم يعرف وحدة القصيدة، وأن بإمكان القارئ أن يبدل الأبيات في مواضعها دون أن يختل شيء في كيان القصيدة. ورغم أن د. غازي القصيبي قد اعتبر أن هذه القصيدة هي القصيدة / المسرحية، فإنه اعتبر البيت الأخير ملحمة مركزة حيث يلخص المتنبي حكاية القصيدة بأكملها في قوله: هَذا عِتابُكَ إلاّ أنّهُ مِقَةٌ **قد ضُمّنَ الدُّرَّ إلاّ أنّهُ كَلِمُ •القصيدة / الملحمة أما القصيدة الملحمة عند القصيبي فقد كانت "الأطلال" للشاعر إبراهيم ناجي، والتي وقف عندها كثيرا وخصص لها حوالي أربعين صفحة من الكتاب الذي احتوى على 128 صفحة، أي خصص لها حوالي ثلث الكتاب. ويعترف القصيبي بداية أن إبراهيم ناجي قد ظُلم من القراء والنقاد، ويبدو أنه حاول أن ينصفه من خلال الحديث – في ثلث الكتاب – عن رائعته "الأطلال" التي غنت أم كلثوم مقاطع منها، فأحسنت إليها، وأساءت في الوقت نفسه. "أحسنت لأنها عرَّفت عامة العرب بشاعر من أعظم شعرائهم، واختارت للغناء شعرا أصلح ما يكون للغناء، وأساءت إذ تصرفت في المقاطع، وانتقتها على غير هدى، وأدخلت في القصيدة ما ليس منها، فأباحت لنفسها أن تتصرف في عمل فني خالد، على نحو يخل بتماسكه وروعته". ورغم أن "الأطلال" خالية من العناصر التي تحتوي عليها الملاحم، فلا ملوك ولا أبطال ولا معارك ولا أهوال ولا أساطير ولا خرافات، إلا أن القصيبي قد اختار لها هذه التسمية "الملحمة" لأنه اعتبرها قصيدة خالدة. هذا ما تصوره الشاعر غازي القصيبي "فكل قصيدة خالدة هي ملحمة من حيث إنها تعبر عن تجارب إنسانية منوعة عميقة وصادقة، ومن حيث إنها تعبر عن مشاعر محتدمة مصطرعة مضطربة، ومن حيث إنها تكشف روح الشاعر، لا في بعد واحد أو بعدين، بل بكل أبعادها الإنسانية الشاسعة". وينبهنا القصيبي إلى أمرين قبل الدخول إلى الملحمة؛ الأول أن لا نتوقع من الشاعر أن يتخذ موقفا واحدا طيلة الملحمة، فهو يناقض نفسه أكثر من مرة، بل أنه أحيانا يناقض نفسه داخل المقطع الواحد، وهذا يمثل قمة الصدق مع النفس ومع القارئ. أما الأمر الثاني فهو أن الشاعر لا يتبع نهجا تاريخيا في الملحمة، فهو لا يبدأ حيث بدأت القصة، ولا ينتهي من حيث انتهت، ولكنه يتحرك بطريقة شبيهة بتداعي الأفكار متخطيا حواجز الزمن جيئة وذهابا. •القصيدة / الرواية القصيدة / الرواية التي قسمها القصيبي إلى تسعة فصول، كانت قصيدة "حديث دمية" للشاعر البحريني إبراهيم العريض، وقد اعتبرها القصيبي واحدة من أروع القصائد في شعرنا العربي الحديث. وقد اختار لها صفة الرواية، لأن الرواية "هي ذلك الضرب من ضروب الأدب الذي يصور الأشخاص كما يوجدون في الواقع، والأحداث كما تقع في الحياة عن طريق حبكة فنية ومخطط ينتظمها من أولها إلى آخرها". ونحن في هذه القصيدة "أمام رواية متكاملة فيها كل ما في عناصر الرواية الناجحة، إلا أ نها رواية مضغوطة ومكتوبة بالشعر". ويعلق القصيبي على أن هذه النزعة الروائية نفعت العريض وضرته في الوقت نفسه "نفعته إذ مكنته من أن يكتب لنا شعرا قصصيا يندر مثيله في الشعر العربي الحديث، وضرته لأنها حرمت شعره من ديناميكية اللحن والألفاظ والصور التي يتميز بها الشعر الغنائي العربي الجيد"، لذا نجد أن "المعجبين بشعر العريض في غالبيتهم العظمى من النقاد والباحثين، ويندر أن تجد له معجبين من القراء العاديين"، وعلى ذلك فقد نجح العريض "فنيا ولم ينجح جماهيريا". •القصيدة / الفيلم أما القصيدة / الفيلم، فكانت مرثية شاعر الصعاليك مالك بن الريب التي اعتبرها القصيبي أعظم القصائد في شعرنا العربي كله قديمه وحديثه. وقد اختار لها صفة "الفيلم" لأنها في رأيه "فيلم سينمائي متكامل فيه كل ما في الأفلام السينمائية من كاميرا تلاحق وتصور كل شيء، ومن مشاهد تنكشف فسيحة مبسوطة أمام الكاميرا، ومن مخرج يتابع كل التفاصيل، ومن ألوان وأنوار وظلال، ومن قدرة على الحركة السريعة. إن هذه القصيدة تدور حول محاور ثلاثة: الماضي؛ حيث تأخذنا إلى الأيام الخالية، فتصور لنا من حياة الشاعر مشاهد نابضة بالبطولة والحب، والحاضر؛ حيث تصور لنا اللحظات الأخيرة من حياة الشاعر بروعة فنية غريبة، وبواقعية يقشعر لها جسد القارئ. والمستقبل؛ حيث تقفز بنا إلى المستقبل، فتحاول أن تتخيل العالم والكائنات بعد رحيل الشاعر. •القصيدة السيمفونية أما القصيدة الأخيرة – في رحلتنا مع كتاب "قصائد أعجبتني" – فهي القصيدة السيمفونية "أحلام الفارس القديم" لصلاح عبدالصبور، والتي تعتبر - من وجهة نظر القصيبي – من أجمل ما كتبه عبدالصبور على الإطلاق، كما اعتبرها واحدة من أجمل القصائد العربية التي كتبت خلال الربع الأخير من القرن العشرين، حيث نجح صلاح عبدالصبور نجاحا واضحا في كل ما أراد أن يحققه في شعره: "الجمع بين جدية المضمون وفنية الشكل، الجمع بين روح التراث ولغة العصر، المزاوجة بين القضايا الخاصة والقضايا العامة والموسيقى المتصاعدة المتفجرة". ويضيف القصيبي "نحن هنا بإزاء سيمفونية حقيقية تتراوح كلماتها ومقاطعها وتتناغم في تآلف غريب تعشقه الأذن وترتاح إليه النفس، وأشهد أنني لم اقرأ هذه القصيدة إلا وتصورت حروفها أنغاما مجنحة في الفضاء تدور حولي وتنهمر شلالا جميلا من اللحون". إن لغازي القصيبي رأيا في صلاح عبدالصبور، فهو يعتبره رائدا من أعظم رواد التجديد في شعرنا الحديث، ومع ذلك فلم يتلق ما تلقاه زملاؤه الرواد من التصفيق. *** وهكذا يأخذنا الشاعر الفنان د. غازي القصيبي في رحلة مع كتابه "قصائد أعجبتني" لنعيش مع عالم الشعر الحقيقي من خلال هذه القصائد الخمس. وليت القارئ يرجع إلى الكتاب نفسه ليتضاعف ويتناغم إحساسه مع هذه القصائد، لأنه مهما يكن فإن هذا العرض السريع للكتاب لن يفي بهذا الغرض على الإطلاق. أحمد فضل شبلول