داخل الشاحنة مكدسون كأجولة الحبوب يحملون تذاكر رحلة بلا عودة، تزاحَمَ الفارون من الاضطهاد السياسي والديني والعرقي والسجن والتعذيب؛ لتبدأ الرحلة من إثيوبيا إلى المجهول، الحرارة كاللهيب، الإغماءات كثيرة، الصمت ثقيل لا تقطعه سوى أصوات تأوهات مكتومة تخشى أن تفضح نفسها، أو بكاء طفل سرعان ما تسكته أمه خوفاً، أو صوت الباب الذي يفتح على فترات متباعدة لإلقاء كمية من الأغذية لا تُغني ولا تسمن من جوع.. الأيام تمر ببطء عسير على التصور. أثناء تلك الرحلة المشؤومة، من الشائع أن يتناوب المهربون على اغتصاب بعض الفتيات الموجودة بالشاحنة، مع تهديد من يجسر على معارضة ما يحدث من الفارين بالقتل بالرصاص بلا أي نية للتراجع عن التهديد. تصل الشاحنة إلى السودان، ثم تفتح مرة أخيرة لكي ينتقل الفارون المذعورون المنهكون أو مَن تبقى منهم إلى شاحنة أخرى وسفر طويل آخر.. بضعة أيام مريرة تنقضي لتصل الشاحنة إلى أسوان، ويخرج المتبقون إلى تلك الأرض الغريبة.. أرض الأحلام كما كانوا ينشدونها أو ربما هي محطة انتقال لأرض أحلام أخرى. وهنا تبدأ القصة قصة حوالي 50 ألفاً -حسب إحصائيات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين 2016- ما بين لاجئ وطالب لجوء إفريقي (ما بين إثيوبيين وإرتيريين وصوماليين وسودانيين) بينما الأعداد الحقيقية للمتواجدين منهم في مصر أكثر من هذا بكثير بما يتجاوز أضعاف هذا الرقم؛ حيث إن أعداد المهاجرين السودانيين الحقيقية تتجاوز 4 ملايين، حسب تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية 2011. في رأيي يرجع صعوبة وضع اللاجئين الأفارقة في مصر إلى عدم تسليط الضوء عليهم محلياً وعالمياً، كما حدث في حالة اللاجئين السوريين والعراقيين من قبلهم، مما أدى إلى قلة عدد المؤسسات الداعمة لهم -أهلية، دولية، رسمية- بالإضافة إلى ضعف المعرفة بهم والدعم الشعبي لهم، وحواجز مجتمعية عدة، مما زاد وضعهم في مصر صعوبة. • التعامل الشعبي يمثل حاجزا اللغة والعرق -بما أن الشعب المصري في الأساس يميل إلى العنصرية- وخاصة في طبقاته الفقيرة، سواء عنصرية عرقية أو دينية، أكبر العوامل التي تؤثر سلبياً على حياة الأفارقة في مصر. تعدد اللغات الإفريقية ما بين الأورومية والأمهرية والصومالية والعربية وغيرها من اللغات الغريبة في مجملها على المجتمع المصري الذي لا يتقن أغلبه سوى العربية، وقليل من الإنكليزية يجعل الفرد منهم، وخصوصاً إن لم يكن يعرف سوى لغته الأم، مثاراً للسخرية والتعدي أحياناً بالسب والضرب وأعمال البلطجة المختلفة عليهم، كذلك لون بشرتهم الأسمر يصبح مثاراً للتعليقات والاستهجان وسماع ألفاظ مثل عبد أسود وسمارة أحياناً كثيرة أثناء تعاملاتهم اليومية العادية. يزداد الوضع سوءاً مع اللاجئات من الفتيات والسيدات اللاتي يتعرضن بصورة مستمرة إلى التحرش في المواصلات أو أماكن العمل والدراسة، ولا يمكنهن التصريح بما يتعرضن له أغلب الوقت؛ لأن اللوم سيقع عليهن في النهاية، كما جرت العادة. ما زلت أذكر حكاية اللاجئة الفتاة التي ذهبت مع مستخدمها للعمل في أحد المنازل لتفاجأ به يحبسها في منزله لمدة شهر تقريباً؛ ليتناوب اغتصابها حتى أصبحت حاملاً منه سفاحاً، وهي لا تزال بنت 17 عاماً! قائمة الأعمال المتاحة للأفارقة في مصر، وبخاصة اللاجئون منهم، قليلة للغاية، مثل أعمال الخدمة في المنازل للفتيات، والتطوع في المؤسسات الداعمة للأفارقة، وقليل من الأعمال الخدمية البسيطة بصورة غير رسمية بالنسبة للرجال، بسبب عدم الاعتراف بخبراتهم أو شهاداتهم في وطنهم الأم، إن وُجدت. ومما زاد على ذلك هو أن المرتبات تكون أقل من نظيرها بالنسبة للمصريين العاملين في نفس الوظائف، فالكل يعلم أنه لا يمكنهم الاعتراض، فلا توجد فرص بديلة بالنسبة لهم، وشروط قانون العمل المصري تعجيزية بالنسبة لهم. حكايات اللاجئين الذين ضاقت بهم السبل بسبب عدم نجاحهم في العثور على العمل موجعة، مما دفع الكثيرين منهم لبيع أعضائهم كالكُلى -أو سرقتها منهم أحياناً - في مقابل الحصول على بضعة آلاف تضمن لهم عيشاً آدمياً على الأقل لفترة من الزمن. لكَ أن تتخيل أن يتكدس أكثر من 13 شخصاً في شقة ضيقة كي يتشاركوا قيمة الإيجار التي لا تتجاوز 1500 جنيه، وبالرغم من القيمة المتواضعة فإنهم يجدون صعوبة بالغة في توفيرها مع بداية كل شهر، والتكدس يزيد الوضع المعيشي والصحي سوءاً، وبخاصة في حالة وجود مرضى، سواء بأمراض مزمنة أو أمراض معدية، ويزداد الوضع صعوبة مع التضخم والغلاء الجنوني المتسارع في الأسعار. • التعامل الرسمي والحكومي (التعليم والصحة خصوصاً) جدير بالذكر أن اللاجئين الأفارقة -من غير السودانيين خصوصاً- غير مسموح لهم بالالتحاق بالمدارس الحكومية المصرية وحتى السودانيين يجدون تعنتاً كبيراً في الالتحاق بالمدارس الحكومية، ولا تقبلهم المدارس الخاصة أو الدولية وإن توافرت مصاريفها؛ حيث إن تلك المدارس لا تعترف بهويتهم الرسمية إلا من خلال جواز سفر، ولا تغني عنهم أي من شهادات المفوضية (سواء حاملو الكارت الأصفر لطالبي اللجوء الذين لم يبت في أمرهم بعد أو حاملو الكارت الأزرق للاجئين الفعليين). فلا يكون أمامهم سوى المدارس المجتمعية، تلك المدارس لا تعطي شهادات موثقة تمكن اللاجئ من الالتحاق بالجامعة بعد ذلك، ولكنها تضمن على الأقل أن ينال قسطاً من التعليم حتى المرحلة الإعدادية أو الثانوية. ورغم ذلك فعدد المدارس المجتمعية في مصر قليل بالنسبة لعدد اللاجئين مع صعوبة امتزاج الجنسيات والأعراق المختلفة داخل المدارس، مما يؤدي إلى حدوث العديد من حالات الشغب، ويسهم في انقطاع الطلبة عن التعليم؛ حيث ينعدم حافز وجود فرص لهم في الالتحاق بالجامعات المصرية إلا من خلال أعداد ضئيلة من المنح التعليمية التي توفرها لهم بعض المنظمات من شركاء المفوضية. وفي هذه السن الحرجة يجد الشاب نفسه وقت الفراغ الكافي بلا تعليم ولا عمل متاح؛ لكي يبدأ في تدمير نفسه ذاتياً بالاتجاه إلى الإدمان والمخدرات والانحراف لأعمال العنف. أما عن الصحة فما زالت المستشفيات الحكومية متأرجحة في التعامل مع اللاجئين حتى بعد صدور قرارات متتابعة من وزارة الصحة بأحقية اللاجئ وطالب اللجوء على حد سواء في الحصول على خدمات الطوارئ كالمصريين تماماً، فما زال اللاجئ في حالة الطوارئ وخصوصاً إذا لم يكن يعرف حقوقه ولا يتقن اللغة العربية يجد تعنتاً كبيراً، وخصوصاً من الإداريين في المستشفيات بقبول حالته وتسلمه من قِبل المستشفى دون دفع نقود كالأجانب. فالهيكل العمودي للنظام الصحي في مصر والإفراط في المركزية جعل هناك ضبابية وصعوبة شديدة في التواصل بين مختلف القطاعات والإدارات لإعلامها بما يطرأ على ساحة القطاع الصحي في مصر من مستجدات أولاً بأول. ولكن يصبح الوضع أفضل في خدمات الرعاية الصحية الأولية في الوحدات الصحية المختلفة؛ حيث تتوافر التطعيمات ومتابعة الحوامل وغيرها من الخدمات للجميع على حد سواء. • تعامل الجهات الدولية تضحك صديقتي الإثيوبية بمرارة قائلة: قدمت إلى مصر منذ ثلاثة أعوام، وأعطتني المفوضية ميعاداً لمقابلتي الأولى في عام 2018، حسبت أنني لم أستوعب في البداية، ولكنها أكدت الأمر واستدركت ولكن المفوضية قامت بتعجيل زمني لأوقات المقابلات بعد عدة مظاهرات وتحركات من خلال اللاجئين. بطء الإجراءات هو السمة الموجودة على أغلبية الشكاوى، بطء الإجراءات والتعنت أحياناً يزيد من مرارة الانتظار حيث يفقدهم الأمل تدريجياً في مواصلة السعي للحصول على حقوقهم. - الخيارات المتاحة أمام اللاجئ الإفريقي في مصر ما أن تطأ قدم اللاجئ أرض مصر وهو يعلم أنها ستكون رحلة بلا عودة، فلا يمكنه العودة لموطنه الأصلي حتى ولو لزيارة ما تبقى من أهله ولا يمكنه السفر سوى عن طريق الخيارات المتاحة لدى المفوضية من لم شمل وغيرها. الوضع المزري الذي يصطدم به في أرض الخلاص، كما كان يحلم بها، يدفعه إلى محاولات مجنونة للهرب إلى محطة أخرى يشعر فيها بالمزيد من الآدمية. الهرب إلى إسرائيل عبر سيناء ما زالت حلماً يداعب الكثيرين، وإن كان مستوى خطورته في ارتفاع مستمر نظراً للأوضاع في سيناء، مما يعرضهم للقتل على أيدي السلطات المصرية أو المهربين أو الجماعات الإرهابية هناك، بينما الهرب إلى ليبيا، ومنها إلى إيطاليا عبر السلوم يكون سبيلاً مختلفاً لدى آخرين، أو إلقاء أنفسهم في مراكب متآكلة للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا مباشرة كوسيلة انتحار غير معلنة، بدلاً من البقاء محاصرين في غمار اليأس في مصر. أتذكرون تلك الفتاة الشابة التي ذكرتها في البداية وقد اغتصبت في الشاحنة أثناء قدومها إلى مصر أرض الأحلام؟ لقد اكتشفت إصابتها لاحقاً بالإيدز بعد خوض طريق طويل من الفحوصات الطبية وعلاج لما ألمَّ بها من آلام نفسية وبدنية جراء عمليات الاغتصاب والتعذيب الوحشي. في اعتقادي أنه لا غنى عن الدعم الشعبي والمجتمعي لهؤلاء المنسيين، من المؤسف أن يكون كل اعتمادهم على الدعم المقدم من خلال المفوضية وشركائها؛ حيث إن هذا الدعم غير متاح سوى للمسجلين فعلياً داخل المفوضية إما كطالبي لجوء أو لاجئين، وكما تعلمون فإن أعداد غير المسجلين بعدة ملايين تفوق أعداد غير المسجلين. إن الاستمرار في الاتكال على دور الحكومة بمفردها لن يسفر إلا عن مزيد من الزمن الضائع في حياة هؤلاء ممن لا بواكي لهم، فمن الضروري للجمعيات الأهلية والمنظمات المجتمعية بكافة صورها أن تشملهم في مجال عملها في شتى المجالات، سواء الصحية أو الإعاشية أو التعليمية، بجانب المصريين على حد سواء؛ كي تسهم في تخفيف جزء ولو بسيط من الأعباء التي تثقل كواهلهم. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.