النسخة: الورقية - دولي لولا نفطها مرتفع الجودة، لما انتبه كثيرون إلى دولة تمددت على الساحل المتوسطي، اسمها ليبيا كانت تثير الفضول والاشمئزاز من سياسات خرجت عن المألوف. لكن ليبيا أنجزت ثورتها على نظام العقيد معمر القذافي، ولم تحقق ثورة على الواقع المتردي الذي اختلطت فيه الفوضى بمفرقعات السلاح وهدير التنظيمات التي لا يضبطها قانون أو أخلاق. ليس مصادفة أن الذهب الأسود الذي كان يهدر في تبني قضايا خاسرة، بدأت في إفريقيا وامتدت إلى الأفق العربي ووصلت إلى أميركا اللاتينية، إرضاء لنزوات غرور الذات، هو ذاته الذي كشف عن عمق أزمة استباحة ناقلات النفط سواحل ليبيا المنشغلة بصراعات ترتيب البيت الداخلي. ومنذ تعرض قيادات حكومية وأخرى في المؤتمر الوطني إلى الاحتجاز كرهائن، بدا أن الغائب الأكبر في هذا البلد هو الأمن والاستقرار. فكما كانت ليبيا لا تتوقف عن التدخل في شؤون الغير في زمن العقيد الذي رحل، تعرضت اليوم إلى أصناف من التدخل، موزعة على نسيج ولاءات التنظيمات التي ترفض إلقاء السلاح والدمج في قوات نظامية، تكفل إقامة مؤسسات أمنية خاضعة للقانون، وليس الأهواء ومنطق التصفيات التي لا تكفل غير الضغط على الزناد. خصائص الثورات التي تأكل أبناءها ليست جديدة. وتخضع عادة لميول وتباينات المواقف إزاء المشروعات المجتمعية التي يراد فرضها، لكنها عندما يتعلق الأمر بسقف المصالح الكبرى ترنو إلى منطق الوفاق والتفاهمات. وما حدث أن ليبيا تواجه فراغاً كبيراً في بنى الدولة القادرة على الانبعاث. من جهة نتيجة تداعيات الفترة الطويلة لحكم العقيد القذافي الذي كان يجسد المفهوم المطلق للدولة المرتبطة بالحاكم وأسرته، ومن جهة ثانية لأن غياب المؤسسات ترك تأثيراً سلبياً في لملمة الجراح. فهو إن كان ساعد في الإجهاز على نظام بلا جيش حقيقي، وبلا دروع متجذرة في الواقع السياسي والاجتماعي. فإن تداعيات الوضع استمرت إلى ما بعد انهيار النظام. عندما بلعت السلطات الناشئة فكرة أن تنظيمات مسلحة يمكن أن تفرض اليد الطولى في اعتقال ومحاكمة رموز ومناصري النظام المخلوع، عبر إقامة معتقلات خاصة لا تطاولها رقابة القضاء الليبي، فرّطت في الجزء الأهم من مقومات الدولة، أي القانون الذي يذعن الجميع لسلطاته المتساوية. وعندما غضّت الطرف عن تصدير النفط وتحويم ناقلات أجنبية على السواحل الليبية، خارج الاتفاقات التي تضبط المعاملات التجارية بين الدول والشركات، أفسحت في المجال أمام انفلات اقتصادي أخطر. وعندما ارتضت تطويق المؤسسات الدستورية وفرض شروط حملة السلاح عليها، فقدت مقومات السيطرة على زمام الأمور. أي ثورة تتحول إلى قناعات جديدة عندما تخضع لمنطق الدولة. ولم يكن تسريع تنظيم الانتخابات وتوالد الكثير من الفاعليات الحزبية دليلاً كافياً على نضج التجربة الديموقراطية التي تتطلب تراكمات وتفاعلات. وحين تخطئ البدايات طريق الصواب تكون النتائج على قدر التسرع والعثرات، بخاصة أن الدعم الذي تلقته الثورة الليبية كان مشروطا في الكثير من حلقاته. وبدا جلياً أن الاستحقاقات الراهنة التي يطفو على سطحها الانفلات والتناحر، لم تكن أكثر من أداء ديون مستحقة، بصرف النظر عن سخائها وقيودها، فثمة أجندات أزيلت من الرفوف. حين تطالب الحكومة الليبية الانتقالية بدعم دولي في التصدي للتنظيمات الإرهابية التي فرضت سطوتها في بنغازي ودرنة وسرت، فإن ذلك لا يعني البتة أن بقية المحافظات لا تعاني من الانفلات، ولكن الإشارة واضحة إلى أن مصدر انطلاق الانتفاضة التي أزاحت القذافي من عرشه، هي نفسها التي تئن اليوم تحت وطأة تصرفات خارجة عن القانون. بين الدعم السياسي والعسكري والأمني ثمة روابط، والشرعية وحدها تكفل للسلطات المنتخبة طلب المساعدة وإبرام الاتفاقات، ولا بد من أن تستند في ذلك إلى وضع أمني يسمح للقرارات أن تجد طريقها إلى التنفيذ. أكان ذلك على مستوى تدريب قوات الجيش والأمن ومدها بالعتاد الكافي لمواجهة الموقف، أو في نطاق قيام تعاون أكبر يندرج تحت خانة الحرب على الإرهاب. وهناك تجارب مماثلة عاشتها دول إفريقية حتمت تدخل المجتمع الدولي عسكرياً، كما حدث في تطهير شمال مالي من الحركات المسلحة المتطرفة. من سوء حظ ليبيا أن العالم منشغل بأزمات أكثر حدة، كما في التوتر الذي يهدد بتدهور الأمن والسلم في العالم بين روسيا والغرب، ومن غير الفأل المنعش أن بلدان ما يعرف بالربيع العربي تواجه مصاعب حقيقية. غير أن ذلك لا يحول دون إبرام ميثاق جديد بين ليبيا وشركائه، يكون قوامها على حماية الثورة من نفسها ومن تغلغل نفوذ خارج البلاد. إنه التحدي الذي لا تواجهه ليبيا فقط، ولكن غيرها من الدول على شفا حفرة أو تكاد من الانزلاق إلى هكذا أخطار.