الأوطان لا تبنى بمجرد قلم الرصاص الذي ترسم به معالم الحدود وشكل الخريطة. الأوطان أكبر من أن تكون حصصاً مدرسية لأوراق التاريخ أو مفاهيم الجغرافيا. الوطن هو معالم الإنسان الذي يعيشه، وكل ما عدا الإنسان ليس إلا طلاسم سهل أو جبل، نحن بنينا هذا الوطن العملاق بأسماء الأبطال قبل معالم الهضاب والشعاب والأودية. زرت الحد الجنوبي قبل عدة سنوات، وفي أثناء الحرب الحوثية الأولى وكان قائد الميدان لواء هصور تعود جذوره إلى الجوف الغالية العزيزة، وبطباع البدوي الأصيل ما زلت أتذكر أنه أصر تلك الليلة على النوم في الهواء الطلق خارج الخيام المؤقتة. كان يروي لنا بحماس وفخر قصة الصعود البطولية إلى رأس "جبل دخان"، وكيف اختار بنفسه أصغر جندي في السرية ليثبت العلم السعودي من جديد على المتر الأخير من تراب هذا الوطن، وفي هذا الاختيار تكمن رمزية مدهشة. هنا القصة المقابلة: على بعد أمتار قليلة من سفوح جبل دخان، وفي شرق صامطة، ولد البطل الجديد، جبران عواجي، الذي بعثت لنا صدفة لقطته المصورة اطمئناناً على شجاعة وكفاءة رجال أمننا، فلا تستطيع عشرات الحفلات والمناورات أن تنافس تلك اللقطة الشهيرة، وهنا تكتمل الصورة لما أردت أن أكتبه في السطرين الأولين لهذا المقال: لواء من أقصى حدود الشمال يروي التفاصيل الخالدة لتحرير آخر جبل بالجنوب، ورقيب من نفس الجبل يواجه غيلة الإرهاب وغدره بخطى واثقة في "ياسمين" الرياض. هذه هي خريطة الوطن الذي نريد. خريطة الإنسان لا خرائط أقلام الرصاص. ومن الجميل بمكان أن الجندي في شخص البطل جبران عواجي نال من الشكر والتقدير أضعاف أضعاف ما ناله لواء بطل سابق على الحدود، وأنا على ثقة أن "الأخير" وبكبرياء الكبار سيكون أسعدنا بمثل هذا الحدث. بقي أن أقول وهنا رسالة هذا المقال: نحن نفتتح في الشهر الواحد على مدن الحد الجنوبي وفي محافظاته الشاسعة الواسعة عشرات الشوارع والمدارس، ويؤسفني أننا نختلق لها الأسماء من بطون الكتب الصفراء بينما لدينا أسماء هؤلاء الشهداء الأشاوس، أو حتى الأبطال الأحياء، ومدونة في قوائمنا الرسمية الحديثة المحدثة. ولو أننا خلدنا أسماءهم على كل مسمى جديد من مشاريع حياتنا التنموية الحية اليوم لاكتشفنا أن الحد الجنوبي لم يعد "جنوبياً" مثلما كان من قبل. سنكتشف أنه أصبح مع هذه الأسماء على الشوارع والمدارس خريطة وطن كاملة مكتملة من رسم الإنسان، يتعانق فيها أسماء الأبطال والشهداء من كل مدينة وقرية وهجرة، ومن كل حاضرة وبادية على تراب هذا الوطن. نحن بهذا لا نكتب مجرد أسماء على اللوحات لمن يستحق فحسب، بل نزرع الإلهام والقدوة في نفوس الأجيال القادمة إلى قلب هذا الوطن وأطرافه.