صدر أخيراً في نشرة جليلة كتاب «بغية الطلب في تاريخ حلب» لمؤرخ حلب الصاحب كمال الدين ابن العديم (ت 660هـ)، محققاً على أصول المؤلف الخطية المتبقية من الكتاب باعتناء الدكتور المهدي عيد الرواضية (الأردن)، ضمن مشروع تبنّته مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي ومقرّها لندن، مضيفة بهذا الإصدار الرائع إلى سوابق منشوراتها التراثية كتاباً جديراً بالتحقيق والدراسة والنشر. وموضوع هذا الكتاب التأريخ لمدينة حلب وما يقع في جوارها، وهو الإقليم الذي كان يطلق عليه في القرون الأولى تسمية: جند قنسرين، ثم أصبح معروفاً بمملكة حلب، واستعراض ما وقع فيه من أحداث طيلة سبعة قرون حتى زمن المؤلف (القرن السابع الهجري). وتزامن صدور هذا الكتاب مع ما لاقته. وما زالت. مدينة حلب المنكوبة والقرى والبلدات المجاورة لها من تدمير وخراب بفعل الأحداث المؤلمة الجارية في سورية، وما طاول معالمها التراثية والأثرية ومبانيها القديمة التي كانت شاهدة على حضارة ممتدة ضاربة في القدم، وتاريخ حافل بالأحداث والوقائع. تقع هذه النشرة النقدية في اثني عشر مجلداً كبيراً من القطع المتوسط، بغلاف تزينه صورة حلب القديمة وقلعتها الشهيرة، مصدّرة بتقديم للشيخ أحمد زكي يماني الذي أثنى على الكتاب وقيمته. والأجزاء العشرة الأولى تمثل ما وصلنا من أصل الكتاب، أما الجزء الحادي عشر فقد صنعه المحقق لاستدراك ما وقع له من الضائع من كتاب ابن العديم في المصادر المختلفة التي نقلت عنه، وسمّاه محقق الكتاب: «الملتقط من الضائع»، واشتمل الجزء الثاني عشر (وهو الأخير) على فهارس وكشافات تحليلية للكتاب. وفي المقدمة البحثية التي سبقت النص المنشور، قدّم الدكتور الرواضية «محقق الكتاب» دراسة نقدية شاملة للكتاب ومؤلفه جاءت في نحو 160 صفحة، تناول في القسم الأول منها: التعريف بمؤلف الكتاب «ابن العديم» ونشأته وأسرته ومؤلفاته، والوظائف التي تولاها وزاولها، وأشار إلى العلاقة التي جمعته بعلماء عصره ومساهمته في الحياة السياسية وملازمته لملوك بني أيوب والسفارات التي قام بها رسولاً من قبلهم إلى النواحي والأطراف وإلى الأقطار المختلفة، وأماط اللثام عن بعض القضايا المثارة حول مؤلف الكتاب. وعرض المحقق في القسم الثاني من الدراسة أهمية الكتاب وقيمته العلمية بين أقرانه، واستعرض محتوياته وما اشتمل عليه، وطريقة المؤلف في نسقه وتأليفه وترتيبه، ومنهجه في التوثيق والعزو. ورصد موارد المؤلف ومصادره التي استند اليها في وضع هذا الكتاب، وبيان أهمية هذه المصادر وقيمتها، وبعض هذه المصادر. كما يذكر المحقق. مما ضاعت أصوله ولم يصلنا. وتتبع المحقق أيضاً سيرة الكتاب وكيف وصلنا المتبقي منه، وقدم بعض الأنظار والرؤى حول تفرق نسخ الكتاب وعدد مجلداته والضائع منه من دون القطع والجزم فيها تاركاً المجال لما يمكن أن تكشف عنه الدراسات والبحوث المستقبلية، وقفَّى هذه المقدمة باستعراض النسخ المخطوطة التي اعتمدها في تحقيق الكتاب وأشار إلى أماكن وجودها مع وضع نماذج مصورة منها. والذي نعرفه عن هذا الكتاب. ويعرفه المؤرخون. أن مؤلفه ابن العديم يعد من طبقة عالية من المؤرخين الذي تركوا أثراً تاريخياً لا يمكن لباحث في التاريخ الإسلامي تجاوزه أو الاستغناء عنه، وكان كتابه في الأصل يقدر بنحو ثلاثين مجلداً، خصص الأول منها للتعريف بمدينة حلب وذكر نواحيها ومدنها وقراها، وبيان فضلها ومنزلتها بين المدن، وما ورد فيها من أحاديث وآثار، وهذا الجزء. كما يقول المحقق. هو الذي سماه مؤلفه «مقدمة الكتاب» أو «ديباجته»، وجعله كإطار جغرافي تستند اليه بقية أجزاء الكتاب، فالمواضع الجغرافية التي تناولها المؤلف في هذا الجزء هي التي ترجم لأهلها في بقية الأجزاء، من دون أن يخرج عن هذا المنهج أو يتجاوزه. ومع ذلك فإن قيمة هذا الكتاب لا تقتصر على التأريخ لمدينـة حـلب ورجـالها أو ما يـقع في نطاقها الجغرافي بل تعداه للتأريخ للعالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربـه، نـظراً الى ارتـبـاط علماء حلب وزعمائها بما يجاورهم من أمم وأقوام وأقطار. وقد أحسن المحقق، في هذا الجزء، عندما ذيل هوامش الكتاب بمصادر جغرافية ودراسات بلدانية إضافية لكل المواضع التي تطرق لها ابن العديم، أراد بهذا. كما يقول. «أن يصيرَ الكتاب الأوَّل بخاصة، بمادّته، وبما أُحِيْلَ عليه من مصادر إضافية، معجماً جغرافياً مفيداً عن هذا الإقليم». أما بقية أجزاء الكتاب، فقد ترجم المؤلف فيها لكل الأعلام الذين اتصلت علاقتهم بحلب منذ أقدم الحقب التاريخية وحتى زمن المؤلف (منتصف القرن السابع الهجري)، من قضاة ومحدثين وفقهاء وعلماء وأعيان وشعراء وأدباء ورجال الحكم والسياسة وزعماء القبائل، ولم يغفل حتى مجانين العقلاء! فصنع لهم تراجم متميزة تشتمل على التعريف بهم وتتبع سيرتهم مع تقديم شواهد ونماذج من مروياتهم أو أعمالهم الشعرية والأدبية، وكما صنع المحقق في الجزء الأول بالإحالة على مصادر إضافية للبلدان، فقد أغنى الهوامش بالإحالة على مصادر إضافية للتراجم الواردة والإشارة إلى الدراسات والبحوث حول العلم المترجم له إذا ما توافرت. وفي الجزء الحادي عشر الذي أفرده المحقق لاستكمال بعض الضائع من الكتاب مما وجده في المصادر التراثية المتنوعة، فقد رصد عشرات النصوص والتراجم التي دونها ابن العديم ونقلها عنه اللاحقون، كما صنع ثبتاً بالتراجم الضائعة التي أحال عليها المؤلف في ثنايا كتابه بما يكشف عن أهمية وقيمة ما ضاع من أصل الكتاب. وامتازت هذه الإبرازة العلمية للكتاب بضبط النص بالقدر الذي يسمح بالقراءة السليمة لنص تراثي على غاية من الأهمية، وبملاحقة النصوص التاريخية والأدبية المقتبسة والآثار النبوية وتخريجها من مظانها. كما عمد المحقق إلى إثبات صورة بعض الكلمات التي تشكك في وجه قراءتها على نحو صحيح أو احتملت أكثر من وجه إما لإعجامها أو بسبب إفساد الرطوبة، ووضع صورتها كما جاءت في الهامش، لتشريك الباحثين والدارسين في فك مستغلقها، وهو منهج جديد لم نعهده في الأعمال المحققة في ما مضى. لقد أعادت هذه النشرة النقدية الاعتبار لابن العديم الحلبي، وهو الذي يشار إليه على أنه مؤرخ حلب بلا منازع، وهو الذي استفتح الكتابة عنها لتتلاحق بعد ذلك المؤلفات حول المدينة وتاريخها، وقامت على كتابه أعمال تالية استندت إليه مثل كتاب «الأعلاق الخطيرة» لابن شداد، إضافة إلى العديد من الذيول والمختصرات التي وضعها بعض المؤرخين لحلب استناداً إلى كتاب البغية. أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن الدكتور الرواضية (محقق الكتاب) أستاذ في التاريخ الإسلامي، وباحث في مؤسسة آل البيت الملكية (الأردن)، قدم العديد من البحوث والدراسات عن منطقة شمال بلاد الشام، وحقق الكثير من الكتب التراثية المهمة، بخاصَّة ما يتصل بالجغرافيا التاريخية وأدب الرحلات. والأمل في مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، التي تبنت هذا العمل، وكل المؤسسات الحاضنة للتراث والثقافة، أن توالي نشر الدراسات والبحوث الرصينة والتحقيقات الجادة للأصول الخطية من تراثنا الزاخر الزاهر، وإتاحتها لجمهرة الباحثين والدارسين.