منذ زمن طويل كانت بداية الشهر العربي السابع إيذاناً بمغادرة مجموعة كبيرة من الموظفين مقاعد الوظيفة إجبارياً لمن أتم السن النظامية للخدمة ببلوغهم الستين عاماً، ولأن هذا اليوم بالذات قد قيدت فيه أعمار الرعيل الأول منهم، وتشهد دوائر العمل في هذه الأيَّام موجة من التقاعد المبكر للموظفين والموظفات إما هروباً بجلدهم وتخوفهم مما يتردد من إشاعات عن صدور نظام جديد أو لفقدانهم بدلات كانت تغريهم بالبقاء! ليس هذا مقصد مقالي ومبتغاه وما أريد الحديث عنه، وإنما حديثي لمرحلة ما بعد التقاعد التي يعتقد البعض خاطئاً أنها بداية النهاية فترى ممن أصيب بالاكتئاب والوسوسة وتوهم المرض ولربما كان في هذا الأمر خير له في دينه ودنياه، وهذا هو الحق لمن رزقه الله الإيمان الصادق والإرادة والقناعة والشواهد على مصداقية ذلك حية من الواقع، فكم من موظف مبتلى بالوظيفة تغيرت أحواله للأفضل مالياً وبدنياً بل ودينياً وهذا هو الأهم. أعرف عدداً كبيراً من المتقاعدين «رجالاً ونساء» واصلوا عطاءاتهم العملية تجارياً وثقافياً واجتماعياً بصورة مثالية حينما وجدوا الوقت المناسب لهواياتهم ورغباتهم الصادقة وكانوا أكثر نضجاً وعطاءً في هذه المرحلة، وقد يتحقق المكان والزمان المناسب لهؤلاء المتقاعدين فيبادرون من تلقاء أنفسهم بالعمل الفردي أو الجماعي عبر أعمال تجارية أو تطوعية، وهذا يجرني لما سبق أن طرحته في مقال سابق في المطالبة بإيجاد آلية للاستفادة من هؤلاء المتقاعدين، وتخفيف معاناتهم ومد يد العون والرعاية لهم، ومن الخطأ أن نقول إن رعاية المتقاعدين هي مسؤولية الدولة أو الحكومة فقط، ولا بد أن تتحمل المؤسسات الأهلية والاجتماعية مسؤوليتها في رعاية هذه الفئة، من خلال جمعيات وهيئات، تقدم خدماتها للمتقاعدين وتستثمر خبراتهم العملية والحياتية في خدمة المجتمع وسد النقص الموجود في مجالات العمل الاجتماعي وغيرها من الأعمال الأخرى. ولقد سررت بما قام به أحد مكاتب توعية الجاليات من استثمارهم لعدد من المتقاعدين من المعلمين في الدعوة إلى الله وتعليم الناس أمور دينهم ليس في المدن فحسب بل حتى في القرى وجعلوا جدولاً منتظماً للزيارات والجولات الدعوية، وسمّوا هذا البرنامج (زدني علما) وهذا العمل أنموذج لما نطالب به المتقاعدين ومؤسساتنا الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني لاستثمار أوقات ذوي الخبرة وتوظيفها في الصالح العام. إنني أعلم أحد رجال العلم والثقافة في بلادنا أنتج ما يزيد على العشرة كتب في الأدب والتراجم والتاريخ السعودي بعد تقاعده من العمل، ومما قاله لأصحابه إنني كنت محروماً في زمن الوظيفة والآن أصبحت منتجاً، وآخر تجاوز عمره السبعين وأتم حفظ كتاب الله وآخرون نمت تجارتهم ومكاسبهم حينما تفرغوا لمصالحهم الخاصة ولسان حالهم يقول تقاعدنا وظيفياً ولم نتقاعد عن الحياة.