«مصير أسود للبشرية»، عنوان معرض تنظّمه غاليري Connaissance des arts في بيروت للرسام التشكيلي رافي توكاتليان (يستمر حتى الأحد المقبل)، ويتضمّن مجموعة من المنحوتات واللوحات تمزج بين الخيال والتاريخ. تنتمي أعمال رافي توكاتليان إلى عالم مزدوج، تتجاور فيه الأرض والسماء، الشفافية والاضطراب، السوريالية والواقعية، الحرب والسلام... ولد الفنان الأرمني عام 1957، وترعرع وسط عائلة أفرادها من الفنانين. جده هو الوحيد من العائلة الذي نجا من المجازر الأرمنية 1915، ولجأ إلى لبنان، فكبر حفيده على هدي الروايات التي كان يرويها له حول هذه المجازر وهروبه من أرمينيا، فأضفى بذلك طابعاً خصوصياً في فنه. استقى توكاتليان ثقافته الفنية من خلال التعمّق في الميثولوجيات التي قادته نحو الفن التقليدي الكلاسيكي اليوناني والروماني، ثم اهتم بعصر النهضة لا سيما أعمال دوناتيللو. وشكل جيروم بوش مصدر إلهام كبير له، كذلك تعلّم من رودان وجياكوميتي الطريقة التعبيرية... من هنا يحدد نفسه بأنه فنان سوريالي ميتولوجي كلاسيكي. يضمّ المعرض تسع منحوتات مزج فيها الفنان الخشب مع الباطون، الراتنج (صمغ الشجر) مع البرونز، فضلاً عن أربع لوحات بحجم كبير، تكرم كلها الطبيعة وتدعو إلى مقاومة الاضطرابات البيئية الكبرى في العالم المعاصر. خشية على البيئة بدأ توكاتليان العمل على منحوتاته الجديدة منذ ستة أشهر، فجمع نحو 30 من جذوع الأشجار، ثم اختار منها ثماني استعملها في منحوتاته. وللرسام علاقة وثيقة مع الغابة تعود إلى أربعين سنة، إلا أنه عندما زارها اليوم، وجد أن 80 بالمئة من أشجارها مقطوع، فيما يبس البعض الذي كان يستخدم خشبه في منحوتاته، وقطع البعض الآخر مع أنه كان دائم الاخضرار. من هنا نشأت فكرة معرض «مصير أسود للبشرية»، الذي يحمل رسالة تحذيرية من تدمير البيئة، لا سيما الأشجار والغابات لأن ذلك سيرتدّ سلباً على البشرية، كذلك ينبض بثورة عارمة إزاء التشويه الحاصل في الطبيعة، لا سيما أنه في كل مرة يتجوّل في الجبال يسمع أصوات المناشير وهي تقطع الأشجار. مزيج بين المواد للمرة الأولى يمزج توكاتليان الباطون والخشب في منحوتاته، فضلاً عن الصمغ والبرونز، ذلك تعبيراً عن ألمه من قطع الأشجار لبناء أبنية مكانها، ولإزالة غابات بأكملها بهدف تشييد العمارات، إلا أنه يحاول عدم الاعتراض على الاثنين، بل تبيان أن هذه المواد يجب أن تتعايش مع بعضها البعض، وهو ما يبدو جلياً ليس في لبنان فحسب، بل يطاول العالم أيضاً. في نظر توكاتليان، لا يمكن الوقوف في وجه الأبنية لكن يجب أن يراعي ذلك الحفاظ على الطبيعة. تكمن المشكلة، بالنسبة إليه، في أن غالبية الدول التي تدعي الحفاظ على البيئة هي سبّاقة إلى تهديمها، ملاحظاً أن للبلدان الكبرى خطاباً مزدوجاً، ولافتاً إلى أنه في حال دمرت عشر شجرات لأجل ارتفاع مبنى يجب زرع ثلاثين مكانها. ويشير إلى أن في لبنان قانوناً ينص على أن كل شجرة تُقطع يجب أن تُستبدل بأخرى، للالتفاف حول هذا القانون يزرع البعض شجراً في جرار فخارية قرب المباني الجديدة. من خلال معرضه، يدعو توكاتليان إلى العمل الفوري لإنقاذ الثروة الطبيعية، لا سيما أننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة في ما يتعلق بالغابات وبقضايا المياه والتلوث، وثمة رؤية سوداوية لهذا العالم الذي نعيش فيه. من هنا تبدو منحوتاته أكثر من مجرد عمل فني، بل هي نصوص منبثقة من الروح ورؤية مظلمة للبشرية من دون طبيعة وأشجار، واستحالة استمرارها في هذا الاتجاه. إحدى المنحوتات مثلاً ترمز إلى متحف من زجاج يمكن أن يُبنى بعد حوالي مئة سنة عندما تنقرض الأشجار تماماً، وفي داخله يتأمل الزوار شجرة معلقة فوق رؤوسهم لم يشاهدوا مثلها أبداً. طبيعة وسريالية رغم أنه كان في الولايات المتحدة الأميركية عند استفحال أزمة النفايات في لبنان، فإن ارتداداتها السلبية طاولت توكاتليان، وعبر عن ذلك في أعماله التي تبيّن مدى غضبه من تشويه جمال هذا البلد الصغير الذي كان في ما مضى مستشفى الشرق بغاباته وطبيعته ونسيمه العليل، وإذا به يتحوّل اليوم إلى بؤرة للتلوث لم يشاهد مثلها في أكثر البلدان فقراً، معتبراً أن ثمة مافيا تسيطر على البلد وتأكل الأخضر واليابسن وأن من الضروري البدء في ورشة محاربة الفساد من هذه النقطة بالذات. هذه الأمور كلها برزت على شكل رسائل في منحوتاته التي يضعها في مكان ما بين الطبيعة والسريالية.