إذا كان الأوروبيون أنهوا عام 2016 وسط تساؤلات عن الأسباب التي جعلت قطاعات واسعة من الرأي العام الأوروبي تجنح نحو خيارات الانكفاء وراء الحدود الداخلية والتوهم بالاحتماء في داخلها من تداعيات العولمة، فإن عام 2017 قد يكون عام الأخطار بالنسبة للاتحاد الأوروبي ككل على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، خصوصاً إذا فازت كتل اليمين القومي في الانتخابات المقررة في فرنسا وهولندا، وتمكنت حركة «البديل في ألمانيا» من إحراز تقدم في الساحة السياسية يجعلها تؤثر في خيارات المحافظين وحزب الوسط بقيادة المستشارة أنغيلا مركل، وتدفعها نحو سياسات محافظة. ولا تتردد زعيمة اليمين القومي الفرنسي مارين لوبين ونظيرها الهولندي، زعيم «حزب الحريات»، غيرت فيلدرز عن الدعوة إلى تنظيم استفتاء حول عضوية كلا البلدين في الاتحاد، أسوة بما حدث في بريطانيا في حزيران (يونيو) 2016، واستفتاء أيضاً حول الخروج من منطقة اليورو. ويدعو حزب «5 ستار» الشعبوي الإيطالي إلى تنظيم استفتاء للخروج من العملة الموحدة. وتتهيأ فرنسا لانتخابات الرئاسة في أيار (مايو) 2017 وهولندا وألمانيا لخوض انتخابات تشريعية. أزمات متنوعة ولا يستبعد أن تضطر حكومة اليسار في كل من إيطاليا واليونان إلى تنظيم انتخابات عامة مبكرة. ويعاني القطاع المصرفي في إيطاليا صعوبات جعلت المصرف المركزي الأوروبي يبدي حذراً شديداً وينذر بالتدخل. ولا تزال اليونان تواجه صعوبات مالية عامة ويجب عليها تسديد مستحقات ضخمة قبل الحصول على قروض بقيمة 80 بليون يورو من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي وفق خطة الإنقاذ المالي. وتسدل المواعيد الانتخابية ستار الغموض السياسي أمام المستثمرين الذين يخشون من أن يقود فوز التيارات القومية إلى تطبيق إجراءات حمائية تهدد السوق الواحدة الأوروبية واتفاقات منظمة التجارة العالمية. ويتكثف الغموض السياسي نظراً إلى الصعوبات المتوقع ان تواجهها مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد. ومن المقرر ان تتقدم رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي رسمياً في آذار (مارس) المقبل بطلب تفعيل المادة 50 من المعاهدة الأوروبية المتعلقة بإطلاق مسار تخلي البلد العضو عن موقعه في الاتحاد. ويجمع الخبراء على أن مسار المفاوضات سيكون صعباً ومعقداً وطويلاً. وسيؤثر انطلاق مفاوضات خروج بريطانيا في مناخ الأعمال في السوق الأوروبية خصوصاً سوق المال في لندن. وإذا تعثر المسار في البداية فقد تهجر مؤسسات مالية كثيرة لندن نحو عواصم أوروبية أخرى. وعبثاً يحاول أعضاء الحكومة البريطانية إيهام الرأي العام بأن بلادهم لن تخضع لشروط المفاوضات التي حددها الاتحاد، فهم قوبلوا بإجماع قادة الدول الـ 27 الأخرى على اعتبار حريات السوق الواحدة في شأن تنقل البضائع ورؤوس الأموال والخدمات والأشخاص، حزمة واحدة لا تتجزأ. ولا يمكن لأي من الدول الأخرى التمتع بميزات السوق الواحدة من دون الالتزام باحترام حزمة الحريات الأربع. وشكلت هجرة العمال من أوروبا الشرقية حافزاً للبريطانيين لتأييد خروج بريطانيا من الاتحاد. وفي القمة الأخيرة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، شددت دول الاتحاد أمام بريطانيا على ألا مجال للتفاوض حول مبدأ المساواة بين المواطنين الأوروبيين، أو الحد من حريات بعضهم، وفق التشريعات ذات الصلة. فوز ترامب ويجد دعاة استعادة الحدود الداخلية والسياسات الحمائية، في أوروبا، في فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية سنداً في الضغط من أجل التملص من بعض اتفاقات التجارة الدولية وقوانين المنافسة داخل السوق الواحدة والتي تمثل الحجر الأساس للسوق الأوروبية. ويرصد المراقبون المؤشرات التي قد توحي بالخيارات الفعلية للرئيس المنتخب عندما سينتقل من التغريد على موقع «تويتر» إلى اختبار برنامج حفز النمو وخفض الضرائب وسياسات الطاقة والمبادلات التجارية الذي وعد بتطبيقه. وكل خيار سيؤثر حتماً في السوق الأوروبية. وتشير زيادات سجلتها أسواق المال، منذ انتخاب ترامب، وكذلك ارتفاع قيمة الدولار وأسعار الفائدة الأميركية، إلى أن الوضع الاقتصادي العالمي مرشح للاستقرار والنمو. وتوقع صندوق النقد الدولي أن يرتفع النمو العالمي من 3.1 في المئة في 2016 إلى 3.4 في المئة في 2017. لكن أحداً لا يعلم حقيقة السياسات الحمائية التي وعد الرئيس المنتخب بتنفيذها خصوصاً إزاء الصين. وفي آخر تغريداته على «توتير»، رأى ترامب أن «الصين تجني ثروات وأموال هائلة من الولايات المتحدة من جانب واحد»، أي من دون مقابل. وإذا اتخذ ترامب إجراءات حمائية ضد منتجات الصين قد ترد الأخيرة بخفض وارداتها من المنتجات التكنولوجية الأميركية. وقد تعوض مشترياتها من طائرات «بوينغ» الأميركية بطائرات «إرباص» الأوروبية. ولن تنجو أوروبا من تداعيات الحرب التجارية، إذا اندلعت، بين الصين والولايات المتحدة. فإذا خفضت السوق الأميركية وارداتها من منتجات صناعة التعدين في الصين قد تغير الأخيرة وجهتها نحو السوق الأوروبية فتضرب منتجاتها الأرخص قطاع التعدين الأعلى كلفة. العلاقات مع روسيا وتتفاعل الساحة السياسية وأوساط الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي بدرجات متفاوتة تجاه ترسانة العقوبات التي يفرضها الاتحاد على روسيا منذ 2014 رداً على ضمها شبه جزيرة القرم ودعمها الانفصاليين في شرق أوكرانيا. وتنتقد الأوساط الاقتصادية في أوروبا الغربية الإجراءات العقابية لأنها حرمت المصدرين الأوروبيين من أسواق روسيا التي اتجهت نحو المغرب وتركيا وجنوب أفريقيا للتزود بالمنتجات الزراعية. وأصغت دول إلى دعوات شركات وتصدرت إيطاليا مجموعة الدول التي تساند تخفيف العقوبات على روسيا على رغم عدم تطبيقها اتفاق مينسك حول الأزمة الأوكرانية. وتتعرض سياسة العقوبات التي ينتهجها الاتحاد تجاه موسكو إلى انتقادات مباشرة من أحزاب اليمين القومي واليمين المحافظ في أكثر من بلد. ففي فرنسا، تعتبر زعيمة «الجبهة الوطنية» مارين لوبين ضم روسيا شبه جزيرة القرم إجراء «لا ينتهك القانون الدولي»، ووعد مرشح يمين الوسط فرنسوا فيون برفع العقوبات المفروضة ضد روسيا وينتقد سياسة عزل روسيا «على رغم كونها الشريك الرئيس في الحرب ضد التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق». وأبرم زعيم اليمين القومي في النمسا نوربرت هوفر، الذي كاد يفوز بانتخابات الرئاسة، اتفاق تعاون مع حزب الرئيس فلاديمير بوتين «روسيا الأم». وقال ديبلوماسي رفيع المستوى في بروكسيل لـ «الحياة» إن المؤسسات الروسية ذات الصلة بالكرملين «تدعم مجموعات قومية ومحافظة في أوروبا الغربية». وكشف عن توافر «معلومات وثيقة تشير إلى أن الكرملين، من خلال قنوات غير مباشرة، سيعمل لخسارة مركل في الانتخابات المقبلة» لأنها ساندت العقوبات ضد موسكو.