النسخة: الورقية - دولي يندرجُ فصلُ السِّياسة عن الأدب - بخاصة الشِّعرُ - بعدما تحوّلا علْمَين منفصلين على ما تعهّدتْه وتتعهدّه مناهجُ تعليم دارجة ومجلات ثقافية نخبوية، اندراجَ فصلِ الألم عن العلاج والجوع عن تلبية الحاجة، فهو بذلك فصلٌ واهمٌ يغذّي تصورات ذهنية عجيبة، بُنيَت وتُبنى عليها شتى الأكاذيب «الثقافية»، وما يكتنفها من منافسات جبانة ونهمة في آن. وليس قليل الشأن ولا ضعيف التأثير أن تقترن ذاكرة أكثر من جيل سوريّ، مثلاً، بنماذج مختارة من الشعر الفروسي والبطولي قديمِه وجديدِه، وأن يتعهد البعثُ سلطةً ومنهجاً تلك النماذج ويعيد إنتاجها بدءاً من نعومة الأظافر إلى مشيب الخصلات. فإذا ما ساء الحظُّ وتأخّرَ حلول جنيِّ الشعر على واحد من هؤلاء التلاميذ - الكَتَبة، اكتفى بالسجع شعاراً ساحراً، على مثالٍ فريدٍ خطّه معلِّم هو عبقريُّ البعث ميشيل عفلق «العلمانيّ الاشتراكيّ»: (العروبة بلا إسلام كالجسم بلا عظام). على المقلب الآخر، ويا لغرابة تشابه النقائض لاعتمادها اللفظَ نافخاً في رماد الكلمات، سيكون لمجلة «شِعر»، على حروبها المجتلبة من سياق خارجيّ، دورٌ سلبيّ وراسخ في فصل السياسة عن الأدب والشعر، واعتبار الأخير حقلاً للنظر التأمليّ الجمالي الخارق ومغيّر أساليب الكتابة، وتالياً التفكير بها وبعلاقتها مع الشؤون العامة. لقد بلغ، وفق مجلة «شعر» من جهة، ووفق جماليات البعث الدموية من جهة أخرى، رفْعُ عتبة الجماليِّ قيمةً مجرَّدةً إلى حدّ احتقار الواقع الجاري. ذلك أن الشعريّ والثقافيّ، ومنهما تخرج القيمة «المضافة»، وفق منظرين كثر لهم مكانة وسلطة أينما حلّوا، يأتي من مَلَكة ماورائيّة وتلك يناسبها فنُّ التجريد الرفيع، لا الحياة السائلة وحوادثها التافهة، ومما يصلح الغيب - الوحي تالياً، لا بمعناهما الديني وحسبُ، مكاناً للتفكير ومبدأً للتقرير، مبعداً الحاضر المعاش عن المراقبة، مع علمنا نحن وهم أن المعاش، التافه، واليوميّ، هو الوحيد الممكن والمتاح. هكذا نمط تفكير يحتقر الحاضر احتقار الحياة نفسها، وهو لذلك إمّا أن يعود إلى ماضٍ وهميّ فردوسيّ، أو يقفز فجأة إلى ذرى مستقبل مشرق. وإذا كان حقلُ السياسة، بمعناها الأكثر رحابة، في عموم المنطقة العربية قد دالَ فانحصرَ وتقزّمَ في تسلُّط السلطة عبر العنف جماعاتٍ وأحزاباً شتّى، تسندها فنونها العصاباتية وحَطِّها القمعَ وسيلة وحيدة، فإن حقلَ الأدب (الشِّعر) هو عينُ الفنِّ (البديل) لسلطة أخرى موازية ومنافسة. ولعلّه من المفيد هنا، إثر رحيل الشاعر جوزف حرب، ثم الشاعر أنسي الحاج، ولهما ما لهما من علاقات شعريّة وتنظيرية في قلب السياسة العاطفيّ ودورِ الشِّعر في تغيير الفكر، أن نتذكر مناسبة أخرى، شديدة التاريخيّة عن رحيل قائدٍ تاريخيّ تلازمَ صعودُ نجمه الكارثيّ مع لمعان نجومٍ آخرين من حوله. ذلك أنّه، بُعيد وفاة الرئيس السوريّ حافظ الأسد، وفي معرض ذكر مناقبه، وإحصاؤها من العسر بمكانٍ على أيّ كان، لفتت الأديبة العربية السورية كوليت الخوري إلى أن سيادة الرئيس الراحل كان... «أحياناً» يقرض الشعر! وهذه العادة، بحافظ الأسد أو من دونه، حسنةٌ ولا يمكن لفظ قيمتها من حيث المبدأ. أباطرة اليابان أيضاً، بين الحين والآخر، كانوا ينشرون بضع قصائد من الهايكو. كانوا مقلّين في «قرضهم» الهايكو الرهيف، إذ ليست إجادته من السهولة بمكان، عدا عن أن الإكثار منه علامة استسهالٍ تؤذي الفنّ والفنان معاً، ناهيك عن القرّاء. كان نشر قصائد الهايكو إذن عادة يابانية أصيلة حينما تكون الأصالة وليدة الحياة، فكيف لإمبراطور اليابان، وهو شمسُها، أن يكون إمبراطوراً حقيقياً من دون «هايكو» جميلة، أنيقة، تنطوي على حكمة وتأمّل وعلى ذوق رفيع. نسيت كوليت خوري حينها، وهي تنسى اليوم، أن شاعراً آخر مهماً كان يقرض الشعر أحياناً. كان ضابطاً في جيش التحرير الفلسطيني، وكانت كتبه الأكثر مبيعاً، إذْ يفرض شراءها على جنوده كما يفرض أمراً عسكرياً لا غير. الحجة قانونية، جاهزة وفاحمة: «نفِّذْ ثمّ اعترضْ». لكن عندما يتحول التنفيذ إلى هزال مضحكٍ لا يبقى من الاعتراض سوى دموع الكوميديا. * كاتب سوري.