في حلقتها الخامسة بشأن ملف الأمن الغذائي، تطرق «الوسط» مجدداً أبواب مزارع مملكة البحرين، وتفتحها. مزارع اندثرت وأخرى تنتظر، ووفقاً لقول عدد من مزارعي قرية بوري، فإن مشهد النخيل في مزارع الأهالي سيتوارى عن الانظار في مدة تقارب الخمس سنوات من الآن، ليحل محلها اسمنت البنايات «الأكثر ربحاً». عصر أخضر يتجه للأفول، وسط «تطنيش» أهلي، وفرجة مستمرة للجانب الرسمي يلخصها التصريح المدوي والسابق للمستشار بشئون الزراعة والثروة البحرية في وزارة الأشغال وشئون البلديات والتخطيط العمراني محمد فودة، والذي قال فيه «إن الوزارة حاولت منذ نحو 10 أعوام إصدار قانون لحماية ملكية أو تنظيم التعامل في الأراضي الزراعية، وقد فشلت في ذلك باعتبار أنه يتعارض مع قانون الملكية الفردية». ومن «الرقعة» لكرانة للديه لعراد لسماهيج للدير لعالي، كانت «الوسط» تواصل رصدها توديع مئات المزارع، لتصل إلى بوري، القرية المكناة بحوض النخيل، في إشارة لما تمتلكه أرضها الخصبة والمنخفضة من ثروة زراعية ظلت لسنوات مصدر البحرينيين لمأكلهم ومسكنهم وتجارتهم، حتى قال عنها النخلاوي الحاج حمزة بن علي، لحظة عمله في (تغليك) النخلة في مزرعة الحاج عباس بن علي المري «النخلة في السابق هي كل شيء بالنسبة لنا، منها الغذاء ومنها أدوات البناء، ومن ليفها نصنع الحبال، ولم يكن منها شيء (طايح)»، مضيفاً «(شاغولها اليوم ينتهي، وإذا الشاغول ينتهي هي بعد بتنتهي، إلا ما سيبقى منها بالاعتماد على العمالة الآسيوية)، وعمل هؤلاء في النخلة لا يعادل عمل البحرينيين من ناحية الجودة والاتقان». ضربات متتالية: ومن 500 نخلة إلى 30 بدوره كان المزارع مكي عباس يتحدث واصفاً مزرعتهم في عقود سابقة بالقول «لم نكن نرى الشمس بسبب كثافة نخيلها وأشجارها، وكان المشهد على هذا الحال حتى نهاية الشارع، قبل أن نقوم بقلع و»تجديب» الكثير من النخيل»، مقدراً عدد النخيل في المزرعة في السابق بنحو 500 نخلة فيما لا يصل عددها اليوم إلى 30 نخلة. عملية قتل للنخلة تمت جهاراً نهارا، وضربات متتالية تعرضت لها، ولكل ذلك حكايته التي يسردها الحاج مكي بالقول «في السابق (أتحدث في فترة تعود لما قبل 40 سنة)، كان الاعتماد على رطب النخلة كغذاء رئيسي للأهالي، وشمل ذلك حتى أنواع من الرطب كالخصيب والسلس، وذلك بسبب شدة الحاجة والفاقة، ومع مرور الزمن بدأت اليد العاملة في الانحسار بسبب دخول الاعمال والوظائف الحديثة على الخط، فبدأت الناس في هجرة العمل في المزارع وتفضيل الأعمال عليها لكونها (أريح) وأفضل مدخولا». وأضاف «لك أن تتخيل أن العمل في المزارع كان مستمراً بلا إجازة أسبوعية بما في ذلك يوم الجمعة، ويكون العمل اليومي فيها ممتداً من الصباح حتى الليل». وتابع «مع مرور السنوات وتبدل الاجيال، ورحيل الأجداد، ومجيء الأجيال اللاحقة، لم تكن هذه الاخيرة تأكل نصف ما يأكله أجدادهم من التمر، فقل الطلب عليه، وأصبح البديل الغذائي يأتي من الخارج ممثلاً في مختلف أصناف الفواكه كالجح والبطيخ والعنب، وخاصة في أيام القيظ، فيأتي الطفل من مدرسته والأب من عمله فلا يسأل عن رطب أو تمر، بل يكون السؤال البديل (أماه، أبويي جاب لينا اليوم جحة؟ أماه جابوا لينا عنب؟ جابوا لينا مشمش؟ هالنمونة، وما يسأل عن رطب وتمر مول مول)». ما نبغي إلا إخلاص! تحولات متلاحقة في نمط الحياة البحرينية، تحول معها الرطب والتمر من وجبة أساسية إلى وجبة ثانوية. يضيف الحاج مكي «وصلنا للعشرين السنة الأخيرة، حيث الجيل الذي لم يعد يفكر في شيء اسمه رطب، حتى أضحت تسعيرة الرطب (أبو 5 دنانير بـ 500 فلس)، واللوم إزاء ذلك لا يقتصر على المزارعين بل يعود لـ»الزمن الذي جار على النخلة»، حتى بات من كان يأكل بعض الرطب وبعد تمدنهم، يرددون (ما نبغي إلا إخلاص ما نبغي إلا غرة ما نبغي إلا شبيبي، وعافوا ما كان يأكله الأوليين ويقدم للحيوانات أيضاً، وهم يرددون (شيله شيله هذا اللي يأكلونه الحياوين)!». عوامل انحسار عصر النخلة لم تقتصر على الجانب الداخلي، فكما يشير الحاج مكي فإن دخول أنواع جديدة من الرطب من السعودية كان له دوره أيضاً، من بين ذلك دخول أنواع كـ(نبتة سيف)، و(شبيبي). القادم «ألعن»: «شيل النخلة وسو دكاكين» من خبرته الممتدة لأكثر من نصف قرن مع النخلة، يستشرف المزارع الحاج مكي قادم الأيام وهو يؤكد «ستكون ألعن من سابقتها، وفي حدود 5 سنوات من الآن لن ترى نخلة هنا وفي ما تبقى من مزارع خاصة بنا كأهالي، عدا تلك التابعة لعلية القوم». وعن السبب يقول: «(الشبيبة) لا تأكل رطبا ولا تمراً إلا بشكل نادر، وبجانب ذلك فإن العوائل البحرينية من أصحاب المزارع تريد منازلا اليوم ولا تريد مزارع، فمع رحيل الجد او الوالد، يبدأ الأبناء في تقاسم الإرث (المزرعة) وتحويلها لقسائم سكنية، وفي الحد الأدنى يرددون: (نخلة! شيلها شيلها وسو 3 دكاكين تدر علينا شهرياً 500 دينار)». حديث بتأوهات كان يدلي به الحاج مكي الذي طلق نخلته منذ 10 سنوات، لكنه بموازاة ذلك يبدي تفهمه، حيث يقول «ما في سكن، فأنا مع عائلتي قاعد في بيت 50 في 50 ومكون من 3 طوابق، وكل 5 أنفار في حجرة، والأب هو بأولاده في حجرة ويقدم طلبا لوزارة الإسكان فيضطر للانتظار مدة لا تقل عن 20 سنة». حتى الماي ببيزات! وبضرس قاطع كان الحاج مكي يتحدث عن نهاية مؤكدة لعصر النخيل في مملكة البحرين، معلقاً على ما تردد من كلام رسمي بخصوص العناية بالمزارع بـ»الكلام الفارغ الفاقد للمعنى»، وعقب «الحكومة هي بنفسها من تباشر عملية تدمير المزارع، والماء الذي ينبع من الأرض سيتم احتساب ضرائب عليه، ومؤخراً فقط جاءنا أحد الموظفين وهو يقول (حتى ماؤكم الذي ينبع من الأرض سنأخذ عليكم بيزات)». تحولات لم تخل من نقد، يعبر عنها الحاج مكي بالقول «ما يجري بشأن المزارع عمل غير صحيح، فالنخلة والاشجار تقدم لنا هواء نقيا وصحيا لا بديل لنا عنه، وأنا الذي عشت العهدين؛ عهد المزارع وعهد الاسمنت أستطيع التأكيد على الفرق الصحي الشاسع بين العهدين، وكما هو معروف فإن 3 أشياء تذهبن الحزن؛ الخضرة والماء والوجه الحسن، فـ(لين جيت من الصبح وطالعت الزراعة والماء يجري والعمال يشتغلون بالخصة لين عمال بحرينيين، والساعة 9 تلايموا وسوالف ودلة القهوة وسلة التمر، تشوفهم وش حلاوتهم، حياة. وفي الليل يكون الاجتماع في المجلس وكل يتحدث عن يومه مع النخلة وعن وضع السوق». وأضاف «كل في عمله، هذا يضرب (صخين) وذاك (منجل)، وهذا (يسقي). وحركة وقلوب صافية». وتابع «إضافة لذلك، مع توقف الغذاء المستورد في أي لحظة ولأي سبب، فإننا سنكون ضحية لظروف معيشية صعبة جداً، وتكون لقمة العيش على إثر ذلك مهددة». الحاج عباس: بيجرفون الأولي والتالي ومن أجل استمرار ما تبقى من مزارع، كان الحاج مكي يردد بنبرة متحيرة «المطلوب صعب»، فيما والده الحاج عباس يتداخل بيأس بالقول «خلاص، المزارع جاية تنتهي في بوري وغير بوري، وبيجرفون الأولي والتالي، خلاص». يستدرك الحاج مكي ليقول محاولاً استعادة الأمل «إلا في حالة ليست مستحيلة على الله، بحيث يتحقق العدل والانصاف والمواطن يحصل على بعض حقوقه ويجعلونه شوي (يتفرفرش) عشان يقدر يروح مني ويجي مني، أما إذا ظلينا على هذا الوضع، فإن المواطن لن يستغني عن البناء في مزرعته». واعتماد قرية بوري في السابق، وفقاً لقول الحاج عباس، على الزراعة بشكل كامل، حيث كانت تضم نحو 35 مزرعة، قبل أن يرحل (الطيبون)، ومنهم «الحاج يعقوب، الحاج أحمد بن حسن، سيدحسين سيدماجد، الحاج مسلم، الحاج علي الأصمخ، سيدهاشم، سيدناصر، (كلهم من عمارات الأوليين)»، على حد قول الحاج مكي. الرطب المنقرض: أم الحمام وقراقر الجمل وكان التركيز في مزارع بوري على إنتاج الرطب الذي كانت تمتاز به القرية. يقول الحاج مكي: «ما يميز انتاج مزارع بوري هو نظافة الرطب و(كانوا يجيبون ليهم سبابيك مال الأول وينقى الرطب تنقاة ويصف السبك ويغلف بخياش مال الطحين، وفي أيام القيظ كان الانتاج غزيرا، وأكثر شيء يكون التصدير للمنامة والرفاع)». وبسبب تردي أحوال المزارع، كان منطقياً اختفاء أنواع من الرطب، وتشمل كما يقول الحاج مكي «(أم الحمام) الذي اختفى من بوري وغير بوري، ويمتاز هذا الرطب بلونه الأصفر المائل للأبيض وشكله «المدلقم»، وبطعمه اللذيذ، وقد تعود تسميته إلى أكله من قبل الحمام أيضاً من زود حلاوته، وكذلك (قراقر الجمل) الذي هو نوع من انواع الرطب ويمتاز بحجمه الكبير وكذلك لونه الأصفر المائل للأبيض، ورطب ثالث يعرف بـ(أم منصور) اختفى أيضاً، ونوع رابع يعرف باسم (مجتوم) وحالياً في طريقه للانقراض». تغليك أم تجديب! مزاح المزارعين و»النخالوة» لم ينقطع، وبين الحاج حمزة والحاج مكي كان الجدل بشأن الغرض من (تغليك) النخلة، بين قائل إن الغرض يتعدى التشذيب والتنظيف ليطال منع الضرر عن النخلة، وبين مؤكدٍ أن الغرض ينحصر في التنظيف فقط وفقط. - يقول الحاج حمزة وهو يشير بيده للحاج مكي: ما عليك من هذا! - يرد الحاج مكي متسائلاً: تقول ليه (الكرب) يضر النخلة؟ يضرها في ويش؟ - الحاج حمزة: خلها بدون تغليك، وبتشوفها جيفه تتعفس، ورطبها يتأثر، تشعر بطعم أقل ويضعف، نفس الشخص اللي إذا مريت عليه وهو من دون هندام ما تثمنه بشيء. - الحاج مكي: ما رحت عند العمري في المدينة المنورة؟ إخلاصهم وغرة عندهم كبير من دون (تغليك). - «الوسط»: لكن أبوعلي (الحاج حمزة) يتحدث عن تجربة. - الحاج مكي: اش عليك منه، كلامه عن (الكرب) كله خطأ، شلته أو ما شلته نفس الشيء. (التغليك) لتسهيل ركوب النخلة فقط. - الحاج حمزة: ما عليك منه ما عليك منه. الآسيويون بديل الطيبين الحاج حمزة... نخلاوي متشبث بنخلته