الشارقة: غيث خوري عندما ظهرت المدرسة الواقعية في الفن التشكيلي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لقي كثير من فناني هذه الحركة الفنية الهجوم وعدم الاكتراث بأعمالهم من فنانين ونقاد معتبرين، والذين رأوا أن هذه الأعمال مجرد تصوير جامد ونسخ لما هو موجود من دون تقديم أي جديد. بين رواد الحركة الواقعية يبرز اسم الفرنسي جان فرانسوا ميّيه (1814- 1875)، الذي قدم عبر لوحاته العظيمة أحد أهم الأشكال الفنية التي تركت أثرها البليغ في حركات وتجارب التشكيل اللاحقة، وقد حملت أعماله ذات الألوان الداكنة أكثر من أي شيء، وجوه الفلاحين والفقراء، وتفاصيل حياتهم اليومية والمعاشة. ولعل جذوره التي تعود إلى أسرة فلاحية من منطقة النورماندي لعبت دوراً أساساً في توجهه الفني لاحقاً، واختياره تصوير حياة الفلاحين، إلى جانب تراجع الحركة الرومانتيكية في ذلك الوقت، لتحل محلها الاتجاهات الحديثة في الفن؛ حيث أخذ الفنانون يبحثون عن وحيهم في الحياة اليومية البسيطة، والطبيعة الجميلة، وقد أخذت هذه الواقعية تتقوى وتتعمق بالعناصر السياسية الاجتماعية، وقد كان كوربيّه ومييّه وجومييّه من أهم أعلام هذه الحركة. غير أن الاهتمام بأعمال مييّه وتقديره كما نراه اليوم، لم يكن هو الحال خلال جزء كبير من حياته؛ فلوحاته كانت محط سخط واستهزاء لدى الكثيرين، فقد قال بودلير عن شخصياته الريفية بأنهم يحملون نوعاً من التوحش الغامض، يجعلني أكرههم. كما قال عنه هوايسمان إن أعماله الزيتية توحي بالبقع، والعرق المنساب من يديه الضخمتين، إن أعماله رديئة وتحمل من البلاهة ما يفقد الأمل، أما بالنسبة إلى بول سيزان، فلم يكن مييّه أكثر من فنان ميلودرامي يصح وصف أعماله بأنها ليست أكثر من مشاهد عاطفية همها أن تضرب على أحاسيس التعاطف لدى المشاهدين، إلا أن الكثيرين كانوا يرون في هذه الآراء ظلماً، وبينهم فان جوخ الذي اعتبر ميّيه أباه الروحي وأستاذه الكبير، وهذا ما يظهر جلياً في لوحات فان جوخ من محاكاة لأسلوب وعناصر مييّه. قدم مييّه أعمالاً فنية خالدة، من أشهرها لوحة صلاة التبشير وتعتبر من أغلى اللوحات في العالم؛ فمنذ عام 1889 بيعت بمبلغ 800 ألف فرنك ذهبي، إلى جانب عمله نساء يجمعن الحصاد والتي تظهر فيها مجموعة من النساء المجهولات في أجواء ضبابية وألوان دافئة، وهن منهمكات في جمع بقايا البذور المتخلفة عن موسم الحصاد في حقل مذهّب قبيل ساعة المغيب. وفي لوحة استراحة الحصاد التي رسمها عام 1850م، تظهر امرأة على يسار اللوحة، وهي أرملة جاء بها رجل إلى فلاحي البلدة وقت حصاد القمح ليحثهم على مد يد العون لها، فنشاهد في هذه اللوحة رؤية إنسانية بإحساس درامي يعكس المأساة التعبيرية الحادة في حالة اليأس الدفين، الذي انعكس على حركة الأرملة وتعبيراتها في فراغ تشكيلي عبقري ومدروس يعطي الإحساس بالشحنة الانفعالية للمشاهد.