بلهجة شامية محبّبة تصرخ ليلى الخمسينية «صباح صباح»، عندما وصل حارس التراث الموسيقي الحلبي الأصيل صباح فخري، متأخراً، إلى مسرح «أسواق بيروت» ليلة الثلثاء - الأربعاء. ثم تردف والدمعة تقف في حجر عينها: «رح يوقّف قلبي من الفرح». فتردّ سمر الستينية جارتها في الكرسي المجاورة، بصوت عال: «الله أكبر الله أكبر، بيروت كلها اهتزّت». لكن السيدتان الأنيقتان اللتان تنتظران هذه الحفلة التاريخية منذ أعلنت شركة «سوليدير» عن موعدها في أيار (مايو) الماضي، ونفذت بطاقاتها منذ الأسبوع الأول لفتح أبواب البيع، سرعان ما شعرتا بخيبة أمل. فالفنان صباح أبو قوس الذي اكتشفه فخري البارودي في خمسينات القرن المنصرم وأهداه اسمه، ويعتبر ماركةً مسجّلة للأصالة والفرادة والسّحر، كان متعباً لا يقوى على الغناء مطوّلاً كعادته. «ما كان يجدر بأولاده أن يقبلوا بإجراء هذه الحفلة، هذا الرجل رمز عالمي للفن العربي، إنه يستحقّ التقدير والراحة. وهذه الحفلة التي يُقال أنها الأخيرة له، أعطتنا نحن عشاقه الذين نلحق به من بلد إلى بلد، نظرة سلبية وحزينة»، يقول محمد (70 سنة) الذي أحتلّ الشيب شعره. لكن بالنسبة لماريان (33 سنة) التي أتت برفقة والدتها الستينية التي لطالما حلمت بأن تشاهد حفلة للفنان الذي دخل اسمه موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية، فإن «الحفلة رائعة وإن كان أنس ابن صباح فخري أكمل عنه كل الأغنيات والمواويل التي نحفظها عن ظهر قلب». وتضيف أم ماريان: «هذا الرجل هو رمز ومجرّد وقوفه على المسرح فقط من دون أن ينطق بكلمة فهو شرف كبير لنا. مع العلم أن ابنه ورث الصوت الرخيم عنه وأدى إرث حلب بكل أمانة». وصل صباح أبو قوس إلى خشبة مهرجان «أعياد بيروت» الذي امتلأ مدرجه الذي يتّسع لحوالى 3000 شخص بأكمله، عند العاشرة والنصف مساءً، بعدما سبقته نجمة «ستار أكاديمي» سارة فرح وأدت أغنيتين للسيدة أم كلثوم: «وصفولي الحب» و«بعيد عنك». وما إن لوّح صاحب «خمرة الحبّ اسقنيها» بيده ونظر بعينيه اللامعتين الفرحتين إلى الحاضرين، حتى اهتزّ المدرج بقفزات الجمهور وصرخاته ومناداته للفنان، لدرجة يشعر فيها المشاهد أن الأرض أصابها زلزال. بدأ ابن حلب الموجوعة بأغنية «يا مال الشام»، فبكى معظم الحاضرين الذين تقدّمهم رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة الذي صفّق مطوّلاً لفخر الموسيقى العربية. ثم تتالت الأغنيات التي يحفظها الحاضرون عن ظهر قلب مثل «العزوبية» و «إبعتلي جواب» و «فوق النخل»، وغيرها من الأغاني التي أداها ابنه أنس أبو قوس معه لكونه لا يستطيع إكمالها وحده. وبدا الأب والابن كصديقين وزميلين متحابين، يسلّم الكبير مهنته بكل فرح وغبطة للصغير، وكأن صباح يقول افسحوا المجال للشباب العربي هذا وقته وهذه ساحته، من خلال ابنه أنس. ولو أن الأمر لم يعجب كثيرين من الحضور الذين كانوا يتوقعون أن يصدح صوت الأب من بيروت ويصل إلى حلب والشام ويحرّرهما من وجعهما، كما صدح في مدينة كراكاس في فنزويلا حيث وقف على المسرح عشر ساعات متواصلة، فدخل موسوعة «غينيس».